اخر الاخبار

وعادت الخرطوم تقف حافية على الاسفلت في شمس الصيف الحارقة مع اطلالة شهر يونيو (حزيران)، وهي تحيي ذكرى فض اعتصام القيادة العامة وتطالب باعلان نتائج التحقيق في عملية تفريق المتظاهرين الوحشية من قبل القوات الامنية، والذي تجريه لجنة المحامي نبيل اديب.

بيد ان قرارت وزير مالية “حكومة الثورة” جعلت الاحتجاجات المعهودة تأخذ منحي خطيرا، إذْ اعلنت رفع اسعار الوقود بنسبة 100 في المائة. فانتشرت الاطارات المشتعلة في  الشوارع الكبرى، وعرقلت حركة السير داخل مدن العاصمة.

 لكن حدث -هذه المرة ان صاحبت الاحتجاجات أعمال نهب وسلب، وظهور مجموعات تحمل الاسلحة البيضاء اخترقت تجمعات الثوار،  وهذا يفقد الحراك الاحتجاجي سلميته التي تمسك بها في احلك الظروف.

بعض الاطراف حمّلت الحزب الشيوعي مسؤولية ما يحدث، بسبب كونه من الداعين للخروج الى الشارع لاسقاط الحكومة التي تنكرت لشعارات الثورة، رغم تمسكه كحزب في كل التصريحات الصحفية والمخاطبات، التي اطلقتها قياداته الوسيطة وهيئاته القيادية، بسلمية الحراك الجماهيري. لكن غالبية الاتهامات تتوجه الى عناصر النظام القديم، الذي عبّر عن رغبته الدفينة في التخلص من خصومه في قوى الحرية والتغيير.

 وتتمثل خطة فلول العهد السابق في دفع الجيش  لاستلام السلطة واعلان انتخابات مبكرة، يعتقدون انهم سوف يكسبونها بسبب ما يتوفر لديهم من امكانيات مالية راكموها خلال  30 عاماً.

في هذا الوقت اعلنت لجان المقاومة في أحياء العاصمة الكبرى، ان ما يحدث في الشارع لا يمثلها. ودعت منتسبيها الى رفع الاطارات المشتعلة  فوراً، والسماح بانسياب حركة المرور. كما قامت الشرطة بانتشار واسع  في شوارع مهمة، مثل شارع عبيد ختم وغيره، واطلقت الغاز المسيل للدموع، وقبضت على مجموعات منفلتة اودعتهم السجون. كما اعتقلت خلية تابعة لحزب البشير المعزول مجتمعة في حي المنشيئة. لكن بعض المصادر رجحت انها تابعة لحركة “تمازج” الموقعة على  اتفاق جوبا، وتتوقع الافراج عن عناصرها خلال ساعات.

على الجانب الآخر لا يوجد ضوء في آخر النفق، حيث اعلن وزير المالية في مؤتمر صحفي ضمه مع وزير النفط، ان الزيادات في الاسعار سوف تتصاعد حسب السعر المعلن للدولار. وتشير الدلائل الى ان هذا السعر سوف يوالي صعوده، بعد ان دخل بنك السودان نفسه تجارة العملة الاجنبية بعرض مزادات لبيعها في البنوك. حتى ان الحزب الشيوعي السوداني وصف البنك في تصريح صحفي صادر عن مكتبه السياسي، بانه اصبح “حافظ سر تجار العملة”.

وهكذا فان ما كان يعتبر مضاربة في العملة، يقوم بها بعض التجار الذين يمكن ان يتعامل معهم الأمن الاقتصادي ويحد من نشاطهم، أصبح سياسة رسمية للدولة.

وعليه فسوف تتوالى الاحتجاجات في الشارع، وربما يعاد انتاجها بشكل متزايد الحدة في اتجاه الخروج عن السيطرة التنظيمية والحزبية. فلا تزال لجان المقاومة كواحدة من اهم العناصر التي فجرت ثورة ديسمبر، ممسكة بزمام الامور ويكفي اعلان منها لتعود الشوارع الى طبيعتها، ما يعني ان الاوضاع رغم كل مظاهر الانفلات تبقى تحت السيطرة.

لكن استمرار الازمة المتوقع بفعل سياسات الحكومة الاقتصادية، سوف يجعلها تفقد هذه الميزة. وربما ترشح تطورات الاحداث قيادة اخرى من خارج المشهد السياسي والاجتماعي لثورة ديسمبر. وقد تكون هذه القيادة من التنظيمات الدينية المتطرفة. خاصة وان ما تسميه الحكومة بالجراحة القاسية التي يتطلبها الاقتصاد السوادني، تترافق معها سياسات اجتماعية تتعارض مع النظام الاجتماعي والموروث القيمي في السودان، مثل التوقيع على اتفاقية سيداو، ومطالبة عبد العزيز الحلو الذي تفاوضه الحكومة، بعلمانية الدولة والغاء عطلة الجمعة واستبدالها بيوم الاربعاء،  وغير ذلك من اجراءات وتوجهات ستحفز التيار السلفي على اعادة ترتيب صفوفه، والدخول في مواجهات مرتقبة مع السلطة.  ولسوف يوظف في ذلك السخط الشعبي على تفاقم الازمة الاقتصادية، التي اوصلت الوضع المعيشي الى حالة لا تحتمل.

اما التيار الاكثر اعتدالاً وسط قوى الاسلام السياسي، فيحتج بان الحكومة الحالية انتقالية ولا يحق لها البت في مثل القضايا التي تتبناها اليوم، وان اقصى ما يتمناه هو ان يستلم الجيش السلطة، ويجري انتخابات لتأتي بحكومة تمتلك الشرعية التي تمكنها من حل المشاكل الكبيرة، مثل طبيعة الحكم وتوجهات السياسة الخارجية، خاصة التطبيع مع العدو الصهيوني.

وهكذا فان ما يحدث هو توظيف للأزمة الاقتصادية وليس تعاطياً ايجابياً معها. ومن الناحية النظرية لا تعلن اية قوى سياسية، باستثناء الحزب الشيوعي السوداني، موقفاً واضحاً من سياسات رفع الدعم للسلع وتعويم سعر العملة، وما تسبب من تفاقم للاوضاع المعيشية لملايين السودانيين.

عرض مقالات: