اخر الاخبار

قصدت بالسلم الأهلي في السودان، ميراث أهل السودان في تأسيس السلام بينهم ورعايتهم له، قبل أن تظهر للوجود أدبيات العدالة الانتقالية وفض النزاعات الدولية. فنحن لم نختلف ونتنازع خلال العقود الثلاثة الاخيرة التي دخل بيننا الآخرون فيها ليصلحوا ذات بيننا. وإنما كنا نتصارع شأننا شأن من يسكنون أرضاً واحدة وبينهم خلافات متعددة. لكننا ايضاً طورنا آليات للتعايش السلمي بيننا نعد منها ولا نعددها.

مواثيق التعايش:

في رحلاتي بجنوب كردفان خاصة في منطقة النوبة (الصبي والفرشاية) بالجبال الغربية وقفت على مواثيق السلم بين القبائل النوبية والعربية. التي أطلعني عليها أحد ملكوك النوبة هناك. وهي صيغة تضمن التعايش بين بيته وأحد البيوت العربية في شكل عهد يتم القسم عليه بالرجوع للمقدسات. أذكر من صيغته أن (نحميكم مما نحمي منه أنفسنا وأولادنا وأموالنا، ولكم مالنا وعليكم ما علينا). وأخبرني الأستاذ عبد القادر دورة وهو معلم احترف التجارة وله دكان لبيع الذرة والدخن في سوق العباسية تقلي، وقد ألف كتابين عن تاريخ مملكة تقلي، أن تلك المملكة تلتزم بالصيغة المذكورة في المعاهدات التي توقعها مع القبائل التي تطلب العيش في حمايتها، وكانت من شتى أنحاء السودان. وذكر لي أن هناك قبيلة (بجاوية من شرق السودان) كانت تعيش في كنف مملكة تقلي، وحين سيرت نحوها قبيلة عربية معروفة حملة تأديبية ثاراً لمقتل طفل، حماها ملك تقلي بعدد 1500 بقرة حاملة. وكانت تلك الحماية سبباً في اختيار القبيلة العربية القادمة من دارفور في أن تطلب الحماية والنزول في ضيافة المملكة لما رؤوا من حرص الملك على الدفاع عن من يقع تحت مسؤوليته.

في نهر النيل والشمالية لا يوجد نزاع حول الموارد في الماضي لقلة الرعي، ولأن الأراضي مسجلة. يقول الدكتور جمعة كندة إنه اطلع على تقرير آخر من مدير انجليزي للأراضي قبل سودنتها، وقد ذكر فيه أنهم قاموا بمسح وتسجيل الأراضي ذات القيمة الاقتصادية على النيل. وأوصى بأن يتم مسح أراضي السودان الأخرى حين تظهر لها قيمة اقتصادية. ولكن الحكومات الوطنية لم تفعل حتى ظهرت النزاعات حول ملكية أراض يسهل وضع اليد عليها لغياب السند القانون الذي يحدد ملكيتها. لكن في نهر النيل بالتحديد ظهرت المشكلة في الأراضي غير المسجلة والتي اعتبرها قانون 1970 ملكا لحكومة السودان، للأهالي فيها حق المنفعة. وقد برز النزاع حولها بعد ظهور التنقيب العشوائي عن الذهب.

في شمال ووسط السودان كان طابع النزاعات فرديا ومتقطعا وتحسمه الجودية “ عملية الصلح” التي يقوم على رأسها شيوخ الطرق الصوفية والزعماء العشائريون. ومن بينهم الشيخ الجعلي الذي يعتبر من اركان الجودية في السودان. هؤلاء الزعماء لا يخرج أحد عن طوعهم. ولذلك ينتهي أي نزاع بالصلح. لكن مع ظهور الذهب وحسم كثير من القضايا المالية بعيدا عن ساحات المحاكم لعدم مشروعية النشاط المختلف حوله فـإن جرائم القتل دخل فيها التشفي والتمثيل بالأجسام مما ساهم في اختفاء العفو والمطالبة بالقصاص. وهي خطوة تفت في عضد السلم الأهلي الراسخ في تلك المنطقة.

في منطقة شرق السودان تكثر الثارات القبلية بين القبائل وبين بطون وأفخاذ القبيلة الواحدة لأسباب ثقافية. لأن الأرض لم تعد مصدرا للنزاع بعد أن حولت الحكومة المراعي إلى مشاريع زراعية ضمن دلتا طوكر والقاش، ولم تستوعب الحيوان في الدورة الزراعية فحولت شعب البجا من فقراء إلى معدمين ليس أمامهم غير العمل في كلات الموانيء والأعمال الهامشية الاخرى.

تتعامل الإدارة الأهلية مع النزاعات في جرائم القتل بمفهوم يسمى محلياً ( القلد) حيث يأخذ الناظر القاتل في منزله وتعاد صياغته عن طريق عمل السخرة في المنزل. ويبداً الحوار بعد 6 أشهر يستمع فيها أهل القاتل إلى ذوي القتيل ثم تدخل الجهة التي ترعى النقاش وتذكر الطرفين بالأيام السعيدة التي قضوها مع بعضهم مثل تجاورهم في العمل أو رحلاتهم المشتركة خاصة إلى الاراضي المقدسة ثم يتم طرح الصلح. وإذا لم يتم تعاد العملية من جديد وينظر فيها بعد 6 أشهر اخرى. والقلد من هذه الناحية يشبه الجودية التي تلتزم نفس تلك التدابير.

لكن نسبة لازدياد الاختلاط بين السودانيين فان تلك الآليات تحتاج إلى مراجعة. نظراً لكونها تعود إلى ثقافة مغلقة. وقد وجهت انتقادات عديدة لتطبيق القلد على نزاع البني عامر والنوبة في شرق السودان الذي كاد يفسد بهجة الثورة الشعبية، لأن الآلية تخص الثقافة البيجاوية التي لا يشترك معهم فيها النوبة. وكان لابد من البحث عن آليات تستفيد من التنوع الثقافي والانفتاح على التجربة الانسانية. وهذا دور المثقفين والمستنيرين، أن يبحثوا عن آليات تستفيد من التراث الشعبي، لكن بعد ان تخضعه للدراسة وفق التغيرات في واقع يزداد تنوعاً وانفتاحاً على العالم.

عرض مقالات: