اخر الاخبار

كانت حركة حسن سريع أو انتفاضة معسكر الرشيد، أو ثورة تموز الثانية، درسا شيوعيا جديدا. فقد تمكنت مجموعة من الشيوعيين البواسل الذين يفتقرون إلى التجربة والممارسة، من وضع لبنة جديدة لها هالتها الخاصة في البناء الشامخ للحزب الشيوعي العراقي. ورغم افتقارها للتنظيم وللتخطيط السليم المدروس، إلا أنها والحق يقال جسدت ثورية الشيوعيين العراقيين وقدرتهم على التعامل مع الأحداث.

وتدفعنا هذه التجربة للتفكير بصوت عال، في سبب عدم استثمار الشيوعيين إمكانياتهم العسكرية في عهد عبد الكريم قاسم، عندما كان لديهم مئات الضباط من مختلف الرتب وآلاف المراتب، وعشرات القادة العسكريين القادرين على استلام السلطة في ظل قاعدة شعبية عريضة، يفتقر إليها الكثير من قادة الانقلابات في تاريخ العراق والأحزاب والتجمعات التي استطاعت استلام السلطة رغم ضعف قواعدها الشعبية وإمكاناتها الحزبية والقيادية. وكان يتوفر للحزب الشيوعي في تلك الفترة قادة من الطراز الأول في مبدئيتهم العالية وعقليتهم المبدعة القادرة على التعامل مع الحدث، وفي تاريخهم النضالي المشرف، قادة منهم قائد القوة الجوية جلال الأوقاتي، ومدير الحركات العسكرية طه الشيخ أحمد، ووصفي طاهر الضابط المؤثر في السلطة آنذاك، وبعض قادة الفرق وأمراء الألوية والأفواج، الى جانب ضباط من مختلف الرتب المتوسطة والصغيرة، يشغلون أماكن قادرة على المشاركة وإحداث التغيير. هل كان وراء ذلك ضعف في القيادة، أو ظروف خارجية، أم حسابات داخلية، أم السبب في طبيعة الحزب الفكرية التي تجعله ينأى بنفسه عن استعمال القوة للوصول الى السلطة.

هذه الأسئلة وغيرها تطرح نفسها، فقد ضاعت فرص عديدة كان الحزب من خلالها قادرا على استلام السلطة وأحداث التغيير المطلوب. وبعيدا عما قيل ويقال من تبريرات في هذا الصدد، ومنها الاختلافات الناشئة داخل القيادة، و”التكتل الرباعي” و”مؤامرته” للإطاحة بالشهيد سلام عادل، والخشية من ردود الفعل الدولية والإقليمية، وتأثيرات الاتحاد السوفيتي في رؤيته الإبقاء على نظام قاسم نظرا لطبيعة التوازنات الدولية، أو عدم الغدر بقاسم الذي وضع في خانة البرجوازية الوطنية، أو الخلط بين شعبيته وشعبية الحزب، وما الى ذلك من أسباب ومبررات كثيرة قيلت ولا زالت تقال، إلا أني أرى ان العامل الحاسم للفشل في هذا الجانب يكمن في الخلل التنظيمي، حيث الاعتماد على الأساليب المتبعة في البلدان الأخرى في بناء المنظمات على أسس طبيعية، والاعتماد على المنظمات الجماهيرية، ومحاولة إبعاد الجيش عن التدخل في شؤون الحكم وإدارة الدولة. فكان الاحرى أن يكون التنظيم العسكري ذا استقلالية تبقيه بعيدا عن هيمنة القيادة المدنية. بمعنى آخر أن يكون الارتباط التنظيمي لمنظمات الحزب العسكرية بقيادة مستقلة ترتبط بشكل مباشر بسكرتارية اللجنة المركزية أو المكتب السياسي، وأن يتولى مسؤولية التنظيم العسكري العسكريون أنفسهم، بموجب النظام العسكري وضبطه وأخلاقياته المعروفة، وأن يكون لكل وحدة عسكرية تنظيمها الخاص المرتبط بالقيادة الحزبية العسكرية، ويكون تنظيم الضباط بمعزل عن تنظيم المراتب، ويكون لهم عضوهم المرتبط باللجنة المركزية، الذي ينقل إليهم تعليمات الحزب وايعازاته، لا أن يتولى المدنيون مسؤولية الخطوط العسكرية، فإذا انتقلت الوحدة من مكانها الى مكان آخر أهمل التنظيم وترك سائبا لشهور حتى يتم الاتصال به بطريقة من الطرق، وهو ما حدث كثيرا في التنظيمات العسكرية.

والأمر الآخر هو أن طبيعة العسكري – خصوصا تلك الأيام - لا تسهل له الانقياد الى قيادة مدنية، وتفضل التعامل مع الرتب السكرية بحسب الرتبة والقدم. لكن الملاحظ أن الحزب أعتمد على الرتب الدنيا وأهمل الرتب الكبيرة. وقد قيل أن عبد الوهاب الشواف كان شيوعيا منظما، لكن إهماله من قبل الآخرين وبالذات القوى القومية ممثلة بـ عبد السلام عارف، لم تؤمّن له المنصب الذي يتلاءم وتاريخه، وهو كان مرشحا لمنصب كبير من قبل الأطراف الحزبية المؤثرة، إلا أن معارضة عارف حالت دون حصوله على المنصب مما جعله يتحرك باتجاه آخر مضاد للثورة وللحزب، وكان ما كان من مؤامرته المعروفة التي كانت أحداثها وبالا على الشيوعيين العراقيين.

وحركة حسن سريع رغم ما رافقها من أخطاء، يمكن أن نعزو السبب الأكبر في فشلها الى ضعف الاتصال بين التنظيم العسكري والتنظيم المدني، والى إهمال عضو الارتباط متابعة عملية كبيرة بهذا الحجم. ولو كان هناك تحرك حزبي مدني رافق الحركة، لتغير مسارها وربما حققت غرضها. هذا من جانب، والجانب الآخر هو الأخلاقية الشيوعية التي لا تتلاءم وطبيعة المرحلة. فقد ألقي القبض على وزيرين من وزراء الحكومة الانقلابية، ولكن منفذي الثورة لم يتخذوا الإجراء المناسب بحقهما، وتحولت قضية سلامتهما وبالا على الحركة والقائمين بها. فالتعامل الثوري في مثل هذه الحالات له أهميته البالغة، وكان لهذين الوزيرين الذين أنقذتهما الأخلاق الشيوعية تعاملهما البشع مع الشيوعيين الذين تمسكوا بتلك الاخلاق، بل أصبحا مصدر الخطر عليهم والمطالبين بإنزال أقصى العقوبات بالثوار.

إن العنصر الحاسم في اللحظات الحرجة والمنعطفات المهمة هو الجرأة، الجرأة التي لا تحسب لشيء سوى نجاح القضية، والتي تنطلق من كون التعامل بالطريقة ذاتها مع الخصم ومقاومته بمثل أسلحته كفيلاً بالنجاح والفوز، أما التردد والحساب المنطقي البارد  فليسا من صفات الثوار الحقيقيين. وعلى من يمسك بالرمح أن يطعن، لأن خصمه في الحالة ذاتها لا يتوانى عن الطعن وتوجيه الضربة القاضية لخصمه.