اخر الاخبار

لم يمض وقت طويل على إعلان الحزب الشيوعي العراقي، وبقرار أغلبية أعضائه، مقاطعة الإنتخابات المزمع إجراؤها في الخريف، حتى إحتدم جدل واسع، بين مؤيد للقرار ومختلف معه. وإذ يبدو هذا الإهتمام أمراً متسقاً مع المكانة التاريخية التي يتمتع بها الحزب، ولجماهيريته، سواء الظاهرة منها أو الكامنة في أعماق كادحي البلاد، ولإيمانه بالأساليب السلمية لإقامة دولة الحريات والعدالة الاجتماعية، فإن سعي البعض لنفث الإحقاد، عبر التشكيك بإيمان الحزب بالديمقراطية، أو خشيته من عدم تحقيق نتائج مرضية من مشاركته في الإنتخابات، أو عجزه عن طرح برنامج بديل لإحداث التغيير، يستدعي شيئاً من توضيح الأسباب الحقيقية التي دفعت الحزب لإتخاذ هذا الموقف، الذي يشكل في جوهره دفاعاً عن الديمقراطية والتغيير السلمي المنشود للعملية السياسية، مع التأكيد على إحترام من أتفق مع هذا القرار أو من إختلف معه.   

لقد بات من المعروف، ومنذ عقود، أن جميع الأنظمة السياسية في العالم، تسعى لأن تتلفع برداء الإنتخابات لتحقق “شرعية” ما لها، حتى صارعدد الممارسات الإنتخابية في الأنظمة الدكتاتورية والطبول التي تقرع للإعلان عنها والجهد الكبير الذي يبذل لتجميل وجهها البشع، أكثر وأعلى وأوسع منها مما هو عليه في الأنظمة الديمقراطية. ولهذا فإن إعتبار أي إنتخابات ممارسة ديمقراطية حقيقية، إنما يعتمد على توفر شروط ثلاثة فيها:

  • أن تضمن تداولاً سلمياً للسلطة.
  • أن يكون هناك مجتمع مدني وحياة حزبية فعالة ومشاركة حقيقية.
  • ان يتوفر قدر مناسب من الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية.

الإنتخابات العراقية والتداول السلمي للسلطة

من المتفق عليه أن الشرط الأساس لقيام المجتمع المدني الديمقراطي هو التداول السلمي للسلطة، والذي تتمثل مظاهره في:

  • ضمان الوصول للسلطة بطريقة نزيهة وفي ظل ظروف منافسة عادلة وإشتراطات متكافئة.
  • الخضوع للمحاسبة أثناء الحكم والتشاور الملزم خلاله مع أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني.
  • ترك السلطة بطريقة سلمية.
  • نبذ العنف كوسيلة للوصول إلى الحكم أو للمحافظة عليه أو إستعادته.

لقد أثبتت الإنتخابات العراقية، وخاصة الأخيرة منها، عدم وجود أية علاقة لها بالتداول السلمي للسلطة، وبالتالي بالديمقراطية كسبيل للتغيير، وذلك للأسباب التالية:

  • غياب المستلزمات الأساسية لإجراء إنتخابات تشريعية نزيهة (كوجود قانون عادل ومستفتى عليه شعبياً، وتنفيذ قانون ديمقراطي للأحزاب السياسية، وضمان تكافؤ الفرص في المنافسة، وعدم إستخدام المقدس، وحيادية الحكومة ومؤسسات الدولة والقوات المسلحة، وعدم وجود سلاح منفلت، ومنع استخدام أو التلويح باستخدام أو التوفر على وسائل العنف ...والخ).
  • عدم إستقلالية مفوضية الإنتخابات، التي تم إختيار أعضائها عبر المحاصصة الحزبية، والذين أُفتضحت دائماً، أثناء أو بعيد الإنتخابات، علاقتهم بالإحزاب وعدم إستقلاليتهم.
  • الإرهاب الفكري والسياسي والإستخدام الصريح للسلاح في تكميم الأفواه، والتصفية الجسدية للمعارضين والمنافسين، وتسخير المعتقدات والمقدسات والإنتماءات العشائرية والطائفية والإثنية من أجل تحقيق ذلك.
  • الإستخدام المكثف والعلني للمال السياسي والمال العام والأموال التي تم غسلها، في تمويل العمليات الإنتخابية.
  • غياب أي سلطة للرقابة الداخلية، ورفض الرقابة الأممية الحقيقية بدعوى خرق “السيادة”، وتأطير ما توفر منها في مشاركة شكلية أو مشتراة.
  • إتفاق القوى المتنفذة على عدم وجود معارضة برلمانية، ورفضها أي تشاور مع المعارضين من خارج البرلمان.
  • عدم قيام أحد بترك السلطة سلمياً، وإستخدام الأغلبية للعنف، بأشكال مختلفة، لتأمين مصالحها.

وجود مجتمع مدني وحياة حزبية فعالة ومشاركة حقيقية

تجري الإنتخابات في ظل مجتمع مدني ضعيف ومهيمن عليه وحياة حزبية مخربة وعزوف جماهيري عن المشاركة. ففي ظل القاعدة الإجتماعية للعملية السياسية، والمتمثلة في الفئات البيروقراطية والطفيلية والكومبرادور وسراق المال العام وتجار سوق العملة والمهربين وبقايا الإقطاعيين ورؤساء العشائر، تم ضبط إيقاع الصراع وتسفيه الديمقراطية وإختزالها بالإنتخابات، وإضعاف المؤسسات الدستورية القائمة، وإستخدامها لإصدار القوانين والأنظمة التي تقنّـون الإستبداد والتصورات الأيديولوجية. كما جرى تأجيج المشاعر الدينية والإثنية والطائفية والعشائرية، وإعلاء شأن الهويات الفرعية وطمس الهوية الوطنية الجامعة. وتغييب مفهوم المواطنة والمساواة التامة بين المواطنين وخضوع الجميع للدستور والقضاء المستقل.

وكخطوة مكملة، حاربت هذه القوى، الحياة الحزبية وأفقدتها دورها المطلوب بين الناس، بشكل مباشر (عنفي وتسقيطي) وبشكل غير مباشر (عبر تغييب الوعي والسيطرة على المؤسسات الثقافية والتعليمية، وتشويه وتبشيع مفهوم الحياة الحزبية والمجتمع المدني في أذهان الناس). كما نجحت هذه القوى ـ أو تكاد تنجح ـ في الهيمنة على منظمات المجتمع المدني، وتجميدها وحرفها عن طبيعتها وأضعاف دورها المنشود.

وإذا كانت المشاركة الواسعة للناخبين، وإعتراف أغلبية الناس بنتائج الإنتخابات، وإطمئنانهم لها، الشرط الأرأس لنزاهتها وصدقّيتها، فإن حساباً بسيطاً لما جري يؤكد غياب أي شرعية إنتخابية حقيقية للقوى المتنفذة. فبعد إن كانت نسبة المشاركة في أول انتخابات نيابية سنة 2005، 80% تراجعت في سنة 2010 إلى 62.4%، وفي 2014 إلى حوالي 60% وفي 2018 إلى 44%، حسب المفوضية العليا للانتخابات أو بنسبة 20% حسب المصادر ذات المصداقية. وهذا يعني أن أكثر من 60% من الناخبين قد فقدوا ثقتهم بالعملية الإنتخابية وعزفوا عن المشاركة في إضفاء الشرعية على نتائجها.

وهكذا، ومع غياب أي دور فاعل لمنظمات المجتمع المدني، والتطبيق غير الجاد لقانون الإحزاب السياسية، وتشويه الحياة الحزبية، وعزوف الغالبية الساحقة من الناخبين عن المشاركة في التصويت، يصبح من الوهم، إن لم نقل من النفاق، وصف العملية الإنتخابية بالممارسة الديمقراطية لأنها، وببساطة، في تضاد صارخ مع الديمقراطية كسبيل للتغيير.

توفر قدر مناسب من الحرية السياسية والعدالة الإجتماعية

يعاني العراق منذ عقود من تخلف ثقافي واجتماعي، أدى إلى إعاقة تبلور الوعي الوطني وتشويه ووأد فكرة المواطنة، لاسيما مع تحول النظام السياسي من مهمة صيانة المجتمع إلى جهاز لتأمين السلطة والثروة للإقطاعيات الطائفية والقومية المتصارعة، وأيضاً مع التفشي المريع في الأمية والتخلف المتصاعد في العملية التربوية والسيطرة على وسائل الإعلام. ورغم الإعتراف الشكلي والدستوري بالمساواة بين المواطنين، فقد غاب تكافؤ الفرص وإنتشرت المحسوبية وتدهورت أوضاع المرأة والشبيبة العراقية، و هجُّرت أو هاجرت أعداد كبيرة من القوميات الصغيرة، ولم تحل مشكلة ملايين النازحين جراء الصراع مع الإرهاب الداعشي، وإستمرت مظاهر حكم الفرد أو العائلة أو الجماعة أو الفئة، وعاد الخوف ليسري بين الجماهير. ومن البديهي أن تصبح الحرية السياسية، في ظل هذه الأوضاع، مظهراً لا جوهر له. 

وفيما نهب الكثير من المتنفذين موارد الدولة وأفقروها في فساد لا مثيل له، أدت السياسة الاقتصادية إلى اتساع الفجوة في بنية الإقتصاد العراقي، بين نشاطات مالية وتجارية رائجة ونشاطات إنتاجية راكدة، مما فاقم من التفاوت المريع في الدخل والثروة، وأدى إلى ارتفاع الأسعار ومستوى التضخم وتقلص الخدمات وزيادة البطالة خاصة بين الشباب وغياب فرص التوظيف المنتج، فأشتد الكادحون وشرائح من الطبقة الوسطى فقراً، وغابت أية ملامح للعدالة الإجتماعية.

إن شعباً جائعاً وخائفاً وقلقاً، إرتهن مصيره ومصير أبنائه وأحفاده، بمؤسسات فاسدة وبقروض لا نهاية لها، لا يستطيع أن يبنى مجتمعاً ديمقراطياً عبر الإنتخابات. كما أن قوى سببت كل هذا الخراب، لا يمكن أن تكون مؤتمنة على أي تحول ديمقراطي حقيقي. 

ما البديل عن المشاركة في الإنتخابات؟

ومن خلال هذا الإستعراض السريع، يمكن التأكيد بأن قرار الحزب جاء منسجماً مع قناعة أغلبية العراقيين، وفي الصميم منهم الشيوعيون، من أن الانتخابات القادمة لا يمكن أن تمثّل حلًّا سلمياً ديمقراطياً لأزمة النّظام السياسيّ في العراق، أو أن تكون سبيلاً لإصلاح العملية السياسية أو تغييرها.

لكن الحزب لم  يكتف بمقاطعة الإنتخابات، بل أشار وبوضوح للبديل المتمثل في تعاون كل الأحزاب والقوى التي تريد تغيير العملية السياسية وإقامة المجتمع المدني الديمقراطي، وفي إقامة علاقة دعم وتحالف مع أبناء إنتفاضة تشرين الباسلة، وذلك من أجل توفير الشروط والمستلزمات الأساسية لقيام إنتخابات ديمقراطية حقيقية، تنهي المحاصصة والفساد وتفتح الطريق نحو بديل للعملية السياسية المخربة والمأزومة. إن إسقاط الشرعية الإنتخابية عن نظام المحاصصة خطوة جادة على هذا الطريق.

عرض مقالات: