اخر الاخبار

ثمة فرضية تقول بأننا لن نستوعب شيئاً من المواقف السياسية منذ خمسين عاماً ما لم نعطِ مكانة مركزية لمسألة المناخ، في أغلب بلدان العالم كانت مواضيع المناخ تشغل حيزاً كبيراً في أروقة ناشطيها، لا سيما البيئة وأحزاب الخضر التي اجتاحت أوربا وبدأت تؤمن أن السياسي يتعامل مع الواقع البيئي والمناخ بطريقة (كيف يستمر بالسلطة لأطول فترة ممكنة وبما متاح) من دون اهتمام حقيقي بالواقع المناخي، هذا ما حفز الجدل حول النقاش المستمر: هل يمكن أن يمثل الاحتجاج من أجل المناخ طريقاً ناجحاً لوحده؟ يبدو أنه مع الوقت قد حسم النقاش ليكون المدخل السياسي هو المفتاح لفرض آليات خاصة للبيئة والمناخ وكيفية الاستدامة بطريقة تنموية ممكنة التحقق وليس مجرد وعود.

فبدأت تتغير الخارطة السياسية الأوربية، على سبيل المثال في انتخابات البرلمان الأوربي لسنة (2019) شهدت تغيراً بالمشهد العام، فصعود اليمين المتطرف، والشعبوية، لهما أسبابهما المتراكمة نتيجة الظروف التي تشهدها المنطقة، وهو قابل للتحليل ويمكن إخضاعه للمنطق من خلال فهمها كردة فعل اجتماعية ضد قضايا الهجرة وعمليات الاندماج وصعود ما يسمى اصطلاحا (إسلاموفوبيا). لكن المفاجأة كانت بصعود أحزاب الخضر وهذه كانت مرحلة تاريخية في السياسة الأوربية حيث بدأ مفهوم المناخ والحفاظ على البيئة يأخذ منحىً سياسياً رسمياً لا يحتاج إلى قوى وتحشيد للاحتجاج في سبيل ممارسة الضغط نحو قرار بيئي معين، بمرور الوقت يبدو أن الأمر لم يكن بتلك النشوة والتفاؤل الذي شعر به المختصون والناشطون حول العالم، فمع مؤتمر باريس للمناخ سنة (2015) كانت ردود الفعل الإيجابية تتكسر على شاطئ المعركة الروسية الأوكرانية ، ودخول الغاز والنفط كأسلحة متحاربة أكثر فتكاً من القنابل والمدافع والطائرات المسيرة، ليتراجع موضوع الانتعاش البيئي والمناخي السياسي من خلال حث الغرب وأوربا البلدان لا سيما دول العالم الثالث وافريقيا لإنتاج وقود أحفوري بإمكانه أن يوفر حلا ثانويا أمام العناد الروسي .

    أما في أمريكا فمع صعود ترامب سنة (2016) وتراجعه العلني عن دعم قضايا المناخ كان العالم في صدمة على المستوى الأكاديمي والبحثي حيث شكلت هذه الصيغة ارتدادا هائلاً ووقعاً كبيراً للإجابة عن السؤال: ما هو الوجه الحقيقي لليبرالية اليوم في الولايات المتحدة؟ يقول الفيلسوف الفرنسي (برونو لاتور): "بعد لحظة الانسحاب تلك بأن أصبح هناك خياران أمام الولايات المتحدة: إدراك عظمة مسؤوليتها، والتصرف بشكل واقعي بإخراج "العالم الحر" من الهاوية، أو الاستمرار في الإنكار. لقد قرر أولئك الذين يختبئون خلف ترامب أن يستمروا سنوات أخرى وهم يحلمون بجر أمريكا ومعها البلدان الاخرى إلى الهاوية- ربما إلى الأبد".

(توفي لاتور قبل سنتين كيف سيتصور الأمر وترامب يعود للترشح بقوة من جديد؟). قررت أمريكا التظاهر بعدم حدوث أي شئ والنظام المناخي الجديد ما هو إلا فكرة أكاديمية القصد من ورائها مكاسب ومصالح شخصية، دفع هذا الأمر بخوض "معارك واحتجاجات بحثية ضخمة " من أجل لفت الانتباه!

   كيف لنا أن نتصور الأمر في العراق، هل نستطيع أن نتكلم عن سياسة تراعي النظام المناخي الجديد؟ على الصعيد الرسمي هناك تبني لعدة محاولات من قبل الحكومة فهي أطلقت قبل أشهر قليلة مبادرة لا نعرف معناها تحت مسمى "الفريق الوطني الشبابي للتغير المناخي " بحضور شبابي غايته على حد قول المسؤول الحكومي عن هذه المبادرة هي رفع الوعي البيئي لدى الشباب. ولا أعرف هل الكوارث التي تحيط بالعراق سببها قلة الوعي البيئي لدى شبابنا؟ انحسار المياه مع عمليات التبخر الهائلة نتيجة تراجع الغطاء الأخضر الذي أدى لحرارة تلامس 50 درجة صيفاً؟ كل هذه الأمور هي قلة وعي؟؟ أم موضوع تراجع الزراعة وفقدان الآلاف من الأراضي الصالحة، وبالتالي أدى إلى خلل اقتصادي وتراجع مخيف في طبيعة نوع العمل مما جعل الشاب الذي تطمح الحكومة أن ترفع وعيه البيئي يدفع مبالغ ضخمة كرشوة من أجل إيجاد فرصة عمل أخرى! ثم تمر هذه الأشهر ولا نعرف أي شئ من هذه المبادرة على أرض الواقع. هل يبدو الأمر مجرد إعلان وتشكيل لتبيان عمل الحكومة والتزامها أمام قضايا المناخ أم أن هناك شئ آخر؟ يبدو أن الموضوع مرتبط بما حدث في مؤتمر المناخ.

حيث أن أعمال المؤتمر الأخير للأمم المتحدة الذي أقيم في دبي العام الماضي 2023 كانت له آثاره، حيث شارك بوفد قوامه 300 شخص من مسؤولين وموظفين حكوميين وكذلك أعضاء في المجتمع المدني على حد قول الحكومة، وقد كان الوفد المشارك برئاسة رئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد، كان الحديث عن دور الشباب في مواجهة حالة التدهور خصوصاً في الجنوب، وفعلاً يتم هذا من خلال هذه المبادرات التي لا تغني ولا تسمن عن جوع، الصور القادمة من الأهوار الشرقية تقول لنا صراحة أن هناك جريمة بيئية كبيرة، فمثلاً التنوع الحيواني الذي يخص الأمن الغذائي والذي حرص المؤتمر الاخير أن تكون أحد أهم مسؤولياته تأمينه والعراق أكد انه سيلتزم به، أين الالتزام والصورة هي أرض مقفرة تماماً بعدما كانت هكترات من المياه تمد الحياة الاجتماعية بكافة سبل العيش ؟؟ هل يمكن أن تتخيل الصياد الماهر في تلك الأهوار ماذا يعمل الآن بعدما تحولت هذه المياه إلى أرض مقفرة؟ الجواب على لسان الأهالي هناك والناشطين المحليين أن أغلب الأعمال تحولت لمهن حرة صباغين، وعمال بناء، وعسكر، وفرص عمل بيع مياه عذبة ومهربين للمخدرات بسبب خبرتهم في جغرافية المنطقة هناك، هذا جزء قليل من كمية المشاكل التي يواجهها الناس هناك والتي تحتاج إلى آليات وفعاليات حقيقية على أرض الواقع والتي يمكن أن نلمسها ويشعر بها المواطن هناك بأن الحكومة فعلاً ملتزمة اتجاهه بشيء من الأهمية ويشعره بوجوده كمواطن عراقي شأنه شأن باقي العراقيين الذين لا حول لهم ولا قوة أيضاً.

محاولات الحكومة غامضة ولا نعرف ماذا تعمل بالتحديد،  كل ما نملكه على الأرض هو تشكيلات ولجان لا تقدم لنا تقريرا أو نشاطا فعليا ملموسا، الخوف من أن تصبح باب من أبواب الفساد الذي يهرع إليه المتنفذين مع كل فرصة تتاح لهم، في أيار الماضي قرر رئيس الوزراء الإبقاء على أعضاء الوفد التفاوضي الدائم للتغيرات المناخية، وعدم جواز استبدالهم، وتأمين تخصيصات مالية لمشاركة أعضاء الوفد التفاوضي الدائم للتغيرات المناخية في الاجتماعات المختلفة للمناخ، يبدو أن الحكومة عازمة على إيصال رسائل للدول أنها تعمل بشكل جدي من أجل تقليل آثار تغير المناخ حيث أكد مؤتمر العراق للمناخ عام 2023 في بيانه الختامي على إنشاء صندوق وطني يخصص لمواجهة تغيرات المناخ .

وفي الحقيقة ما هي آلية عمل هذا الصندوق والأموال، هل فعلاً خصصت؟ وإن كان كذلك فقد مرت سنة كاملة والمشاهد المخيفة من هور الحويزة تجعل العراقي يشعر بالهزيمة أمام هذه الوعود، المناخ تأثيره البيئي يهدد الوجود الثقافي لجماعات إنسانية منتشرة في الجنوب بشكل مباشر حيث عمليات الهجرة المتزايدة هرباً من الحياة القاسية هناك، وفي الوقت نفسه تتصفح موقع وزارة البيئة العراقية لا تجد إلا صوراً للجان وتشكيلات وتخصيصات لا تقدم للمواطن البسيط في تلك البيئة أي شئ، هل فات الأوان فعلاً والعراق استسلم لهذا المصير أم لا زال هناك متسع من الوقت لتدارك الأمور؟؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* باحث انثروبولوجي مهتم بقضايا تغير المناخ

عرض مقالات: