اخر الاخبار

أصبحت (الرسالة العملية) للسيد السيستاني بين ليلة وضحاها مورد خلاف وشجار ومشاحنات جمة بين أطراف عديدة بعد أن طرح أحد النواب مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية، وظهرت مسودة التعديل مكتوبا عليها تعبير (موصى به من المرجعية) ثم أنكر الكل مسؤوليته عن ذلك. لم يكن السيد السيستاني ولا مكتبه يعلمون عن الأمر شيئا، والملاحظ في نسخة التعديل قيام أصحاب هذا المشروع بوضع نص يقول (في حال تعذر تحديد الحكم المشهور عند فقهاء الفقه الشيعي فيرجع إلى رأي المرجع الديني الذي يرجع إليه في التقليد أكثر الشيعة في العراق من فقهاء النجف الاشرف) والمرجع لم يعلم، ولم يحصلوا على موافقته المسبقة للقيام بهذا الدور، وهو دور سياسي يغير من طبيعة عمل مرجعية النجف على مر التاريخ ويسحبها للعمل السياسي. لقد رفض السيد المرجع هذا الدور من خلال بياناته العديدة وأقفل بابه بوجه السياسيين. وقبل إقرار هذا الفعل تم جلب (الرسالة العملية) للسيد المرجع للميدان العام لغرض استخدامها في العمل السياسي، وفرضها بعدئذ على المقلدين وهو تصرف غريب لم يسبق القيام به. حيث انقسم البرلمانيون ومن خلفهم الجماهير بين مؤيد ومعارض، بين من يريد فرض الرسالة العملية كقانون تعتمده الدولة، وبين من يرفض تدخل الدين بالسياسة ويقول بعدم تناسب الرسالة العملية مع قوانين الدولة، وبالنتيجة يستعمل المؤيد للتعديل هيبة السيد السيستاني وقدسية الدين لفرض سلطته، وفي المقابل يقاوم من يؤمن كذلك بهيبة السيد السيستاني وقدسية الدين هذا التوجه لإبعاد المقدسات عن السياسة وعن المصالح الآنية المتغيرة، وعندما يزداد السجال السياسي والمساجلات العلنية في الفضائيات تصاب الرسالة العملية للسيد السيستاني بسهام المتحاربين وتكون الضحية الأولى في ميدان السياسة .

 لا تؤمن مرجعية السيد السيستاني بوجوب فرض (الرسالة العملية) على الدولة، وليس للمرجع دور سياسي على الأمة الإسلامية، بل لديه دور ديني توعوي إرشادي يتركز على الإفتاء(طباعة ونشر الرسالة العملية) فيما يخص العبادات والمعاملات، ولا يجبر المقلد على الأخذ بكل ما ورد فيها، ومن حق المقلد أخذ الفتوى من مرجع آخر، ولا سلطة سياسية للفقيه على أي مقلد، كما أن جمع الدورين السياسي والفقهي يؤدي إلى اختلاط الفتوى السياسية بالفتوى الدينية، ويصبح التقليد السياسي واجبا أكثر من التقليد الديني لأن الأول يتضمن السلطة والثاني لا، وبما أن مرجعية السيد السيستاني لا تطلب أي دور سياسي للمرجع فإن البرلماني من أصحاب التدين السياسي سيسيطر على الدورين الديني والسياسي، وسيقوم البرلمان بعدئذ بدور ديني عوضا عن المرجع ويصبح بعد ذلك ناطقا باسم المرجع، ولو تفحصنا كل كتب الفقه الخاصة بمرجعية النجف لم نحصل على فتوى سياسية واجبة التقليد .

تختلف مساحة صلاحية الولاية بين الولي السياسي والفقيه الديني، وتقتصر حدود صلاحية المرجع الفقهية-حسب مدرسة النجف- بالفتوى بعد أن يسأله الناس عن حرمة هذا الأمر أو ذاك، وليس من حقه إجبار الناس على تنفيذ الفتوى بل يقول رأيه الفقهي لو سُئلَ، وقد وسع بعض الفقهاء هذه الصلاحية إلى المعاملات والقضاء الشرعي بمعنى التحكيم بين طرفين، لكنه في نفس الوقت ليس لديه صلاحية تنفيذ الحكم الذي حكم به بين طرفي النزاع. ولم يرفع  فقهاء النجف بشكل عام صلاحية المرجع في تجاوز الحسبة إلى مهام الحكم وإدارة الدولة، كما لم تصل حدود الحسبة إلى توظيف محتسب يتمتع بسلطة الإكراه في فرض الصلاة والصيام والزكاة ومراقبة الأخلاق العامة والتعامل مع قضايا أهل الذمة ومراقبتهم، ومراجع النجف يؤمنون بدولة المهدي المنتظر بعد خروجه، وهم نواب الإمام الغائب من الناحية الدينية وليس السياسية، ويرون بأن الإمام المهدي لم يتنازل عن دوره في النهوض ضد أمراء الجور والظلم، ولم يوكل هذا الدور السياسي إلى واحد من النواب أو الفقهاء لكي ينوب عنه .وقد وضح  السيد علي السيستاني رأيه بشكل صريح عندما أجاب مكتبه في النجف عن سؤال : ما هو الدور السياسي الذي يملكه المرجع أو رجال الدين ؟الجواب : سماحة السيد لا يطلب موقعا في الحكم والسلطة، ويرى ضرورة ابتعاد الدين عن موقع المسؤوليات الإدارية والتنفيذية ( وثيقة رقم 13 جواب رقم 4 ) ( وأما تشكيل حكومة دينية على أساس فكرة ولاية الفقيه فليس واردا مطلقا) (وثيقة 23 جواب 4) (كتاب النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني، حامد الخفاف ص332، و ص 249

كما أجاب السيد عن حدود ولايته، ووضح بأنها محدودة في الأمور الحسبية فقط، ولا ولاية على الناس خارجها (انظر مسألة 41 ص35، و 43 ص 36، و49 ص39، و63 ص45، و68 ص47، و 78 ص49، و 90 ص53، و 94 ص 53 كتاب الفوائد الفقهية، الجشي، ج1، ط1 2006).

كما لم ينف دور الدولة والقانون المرعي، وليس من المصلحة حسب رأيه العمل خلافا لقانون الأحوال الشخصية، وقال: ليس لولي الفتاة تزويجها إلا وفقا لمصلحتها، ولا مصلحة لها غالبا في الزواج إلا بعد بلوغها النضج الجسمي والاستعداد النفسي للممارسة الجنسية، كما لا مصلحة لها في الزواج خلافا للقانون بحيث يعرضها لتبعات ومشاكل هي في غنى عنها 16/ 9/ 2019، صادر من مكتب السيد السيستاني في النجف برقم 254/ ي.

إن التمعن في ذلك مليا، يعطي فهما مغايرا لما ذهب إليه النواب الذي طالبوا بتعديل قانون الأحوال الشخصية استنادا إلى ما هو مذكور في الرسالة العملية، لأن استخدام الفقه والدين في السلطة ليس واردا عند مرجعية النجف، التي أوضحت منهجها الإرشادي غير السياسي، فهي تؤمن بإقامة الدولة العادلة التي تقيمها الأمة، ليس من خلال قناعتها الفقهية، بل من خلال القناعة المتولدة من الحداثة والتحضر وقيم ومقتضيات العصر، وليس للمرجع ولاية عليها، ولا دور فيها، إلا النصح والإرشاد. كما أعلن السيد السيستاني (بأنه ليس من وظيفة رجال الدين أو طلاب الحوزة العلمية تولي مناصب تنفيذية، فمن غير المناسب أن يصبح رجل الدين مدير معمل أو رئيس بلدية أو مدير مستشفى أو دائرة ضريبة أو مدير مرور) (صلاح عبد الرزاق، الإسلاميون والديمقراطية، ص 99) .

إن الاعتداء على المتظاهرات في النجف وفي المناطق الاخرى، ونعت من عارض هذا التعديل بشتى التهم القبيحة هي تصرفات لا تصدر من مرجعية السيد السيستاني المعروفة بالحلم والحكمة والتسامح، ونرجو من هؤلاء التحلي بأخلاق المرجعية وطرح جميع الأفكار للحوار والمناقشة، حيث أن القوانين المفروضة فرضا لا تنبت في الأرض جذرا ولا تنضج ثمرا.

عرض مقالات: