تعد القضية الفلسطينية من القضايا الدولية الشائكة في أروقة الامم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. والشعب الفلسطيني هو الشعب الوحيد في العالم الذي يعيش تحت احتلال عنصري منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر، على إثر وعد بلفور الذي أصدرته حكومة المملكة المتحدة في 2 نوفمبر عام 1917 لأنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وإضفاء الشرعية على مصادرة اليهود للأراضي الفلسطينية، وتهجير أهلها الشرعيين المتواجدين فيها منذ اربعة عشر قرناَ، وإقامة ما يسمى بدولة إسرائيل على أساس عنصري بدعم وحماية الولايات المتحدة الامريكية والحركة الصهيونية العالمية.
وقد انتهج الحزب الشيوعي منذ تأسيسه سياسة وطنية وأممية صائبة وثابتة في دعم القضية الفلسطينية وهي الإقرار بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وإقامة دولته الوطنية المستقلة ذات السيادة الكاملة وعاصمتها القدس على حدود عام 1969 في الضفة الغربية وقطاع غزة وإعادة المهجرين الفلسطينيين إلى أراضيهم.
وقد أعلن الحزب في ميثاقه الوطني الأول أن الشيوعيين العراقيين يناضلون من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية لفلسطين والأقطار العربية المستعمرة. وأشار الرفيق فهد أن الهدف الأساسي الذي يسعى الاستعمار والصهيونية لتحقيقه هو شطر فلسطين عن الأقطار العربية واتخاذها قاعدة حربية تسهر على مصالحه ضد الحركات التحررية في البلاد العربية والشرق الأدنى. لذا ينبغي ان توجه الجهود في هذه المرحلة نحو إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين ومنح الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير.
في عام 1935 نشر الرفيق فهد في صحيفة الحزب المركزية "كفاح الشعب" سلسلة من المقالات التي تدعو إلى دعم القضية الفلسطينية والقضايا العربية وحق الشعوب في النضال من أجل تحقيق استقلالها. وقد فضح في تلك المقالات الطبيعة الصهيونية باعتبارها حركة سياسية عنصرية تسعى إلى تجريد الفلسطينيين من وطنهم ومناهضة حركات التحرر الوطني.
ومنذ ثلاثينيات القرن الماضي كان الحزب الشيوعي يثقف أعضاءه وجماهيره ضد إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وفي رسالة كتبها الرفيق فهد إلى الحزب وضح فيها أن المستوطنين اليهود جماعة من الناس لهم حقوق معينة باعتبارهم أقلية وليسوا شعباً يستحق تقرير المصير وإقامة دولة. والاستيطان في رأي الحزب هو اغتصاب الأرض الفلسطينية وتهجير أهلها بقوة السلاح وبأساليب مختلفة.
إن الشيوعيين يميزون بين الصهيونية كحركة سياسية عنصرية مرتبطة بالاستعمار العالمي وبين اليهودية كدين. كما أنهم ينظرون إلى اليهود باعتبارهم فئة مضطهدة من قبل الصهيونية.
وفي 28 حزيران 1946 دعا الحزب إلى تنظيم مظاهرة سلمية للتعبير عن الارادة الشعبية بعرض قضية فلسطين على مجلس الامن الدولي ودعا جميع الاحزاب والقوى الوطنية للاشتراك في هذه التظاهرة واعلان تضامنها مع الشعب الفلسطيني. وقد شارك في التظاهرة أعضاء الحزب اليهود ونددوا بالصهيونية واهدافها الرامية إلى مصادرة الارض الفلسطينية، وعلى إثر ذلك قامت أجهزة السلطة برمي المتظاهرين بالرصاص واستشهد فيها الرفيق شاؤول طويق أحد اعضاء الحزب اليهود.
إن موافقة الاتحاد السوفيتي على قرار التقسيم في مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة عام 1947 شكل مفاجأة وصدمة كبيرة للشيوعيين العراقيين وبصورة خاصة للشيوعيين اليهود في الحزب لان القرار يمنح المستوطنين اليهود حق تقرير المصير وإقامة دولة منفصلة على الأرض الفلسطينية وحسب ما صرح به مندوب الاتحاد السوفييتي في الأمم المتحدة (تسارا بكين) في 13 اكتوبر 1947 فان الوضع في فلسطين وصل إلى درجة عالية من التوتر بين العرب واليهود وأصبح مشروع التقسيم هو الحل الأفضل القابل للتحقيق.
وقد نص قرار التقسيم على اقامة دولتين على أرض فلسطين وتقسيم الأرض بين اليهود والفلسطينيين ووفقاَ لهذا التقسيم بلغت حصة اليهود وهم الأقلية 56،5 بالمئة من أخصب الأراضي الفلسطينية بينما بلغت حصة الفلسطينيين وهم الاكثرية من سكان فلسطين على 43،5 بالمئة. ونتيجة لسياسة الاستيلاء
وضم الأراضي أصبحت إسرائيل تستولى على 78 بالمئة من الأراضي الفلسطينية وفق حدود عام 1947 ولم يبق للفلسطينيين سوى 22 بالمئة من تلك الأراضي في قطاع غزة والضفة الغربية. كما أن إسرائيل تقيم عشرات المستوطنات في قطاع غزة والضفة الغربية وتعمل على انتزاع المزيد مما تبقى للفلسطينيين. واليوم يناضل الفلسطينيون من أجل إقامة دولتهم الوطنية على القسم المتبقي من فلسطين وهو 22 بالمئة وإسرائيل ترفض ذلك.
وفي اعتقادنا أن قرار التقسيم كان قراراَ جائراَ بكل ابعاده السياسية والانسانية والاخلاقية وجاء لصالح الأقلية اليهودية بمنح النسبة الأكبر من الاراضي الفلسطينية لغير اصحابها من الأقلية اليهودية المغتصبة للأرض.
وقد اثار موقف الاتحاد السوفيتي جدلاَ حاداَ وبلبلة فكرية واسعة في الاوساط الشيوعية والتقدمية حول كيفية موافقته على قرار يسلب الارض الفلسطينية ويمنح الجزء الاكبر منها إلى الأقلية اليهودية وحول كيفية تخليه عن مبدأ فصل الدين عن الدولة وقبوله بقيام دولة على أساس ديني متطرف من قبل أقلية يهودية من المستوطنين.
وقد اشار الرفيق فهد وهو في سجنه ان موازين القوى الدولية وراء قبول الاتحاد السوفيتي بقرار التقسيم وإقامة دولتين منفصلتين. ودعا إلى وضع شعارات استراتيجية تؤكد على عروبة فلسطين ومنح الشعب الفلسطيني الحق في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وإيقاف هجرة اليهود إلى فلسطين والتضامن مع الشعب الفلسطيني لمواجهة المؤامرات التي تستهدف وطنه.
وقد أصدر الحزب نشرة داخلية لتوعية أعضائه ومناصريه وضح فيها أن قرار التقسيم كان قرارا مجحفا بحق الشعب الفلسطيني ووفر فرصة ثمينة لأعداء الشيوعية للتشهير بالاتحاد السوفيتي وبالأحزاب الشيوعية. ووضح الحزب في نشرته الداخلية أن تقسيم فلسطين هو مشروع إمبريالي قديم يؤدي إلى إخضاع الأكثرية العربية للأقلية اليهودية في الدولة المقترحة. ولهذا فإن الحزب الشيوعي يرفض بشكل قاطع هذا التقسيم. وأكد الحزب ان النضال ضد الصهيونية يجب ان يقترن بالنضال ضد الاستعمار فهو صاحب الانتداب على فلسطين وهو الاحتياطي الرئيسي للصهيونية. غير ان الحزب غير موقفه فيما بعد لكي يتناغم مع الموقف الدولي والموقف الفلسطيني ومع التغيرات الدولية والمحلية المستجدة في القضية الفلسطينية. واقر بحل الدولتين كواقع حال ودعا إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
وقد دعا الرفيق فهد في جريدة القاعدة في عدد تشرين الأول 1943 رفاقه اليهود في الحزب إلى تأسيس منظمة لمكافحة الصهيونية في سبيل فضح طبيعة الصهيونية واهدافها في فلسطين.
وفي أيلول 1945 قدم الشيوعيون اليهود طلباَ إلى وزارة الداخلية العراقية باسم عصبة مكافحة الصهيونية لإجازة نشاطها. ومما ورد في الطلب أن توضيح مخاطر الصهيونية على فلسطين وعلى البلدان العربية واجب وطني مقدس. ومثلما نعتبر الصهيونية خطراَ على اليهود فأنها خطر على العرب وعلى وحدتهم. ومن بين أعضاء الحزب الذين وقعوا الطلب الرفيق يهودا صديق عضو اللجنة المركزية للحزب ويوسف هارون زلخة ومسرور قطان وإبراهيم ناجي ويعقوب فريم ونعيم شوع ويوسف زلوف. وبعد ستة أشهر من الضغوط والاحتجاجات المتزايدة على الحكومة حصلت الموافقة.
وقد جاء في البيان الذي أصدرته العصبة في الثاني من تشرين الثاني عام 1945 بذكرى صدور وعد بلفور أن حل مشكلة اليهود يتم بحل مشكلتهم في البلدان التي يعيشون فيها وأن احتلالهم لفلسطين لا يحل المشكلة اليهودية وانما هو اعتداء صريح على حقوق الشعب الفلسطيني. ودعت العصبة جميع المواطنين إلى النضال من اجل استقلال فلسطين استقلالاً تاماً ووقف الهجرة اليهودية اليها وايقاف مصادرة الاراضي. واختتم البيان خطابه بعبارة يسقط وعد بلفور ويسقط الاستعمار والصهيونية.
ومن نتائج النشاط الدعائي والسياسي الذي قامت به عصبة مكافحة الصهيونية ليس فقط فضح دور الحكومة العراقية التي كانت تتستر على مخططات الصهيونية وتقف بالضد من القضية الفلسطينية وانما توضيح موقف الحزب الشيوعي من القضية الفلسطينية الذي يقر بحقوق الشعب الفلسطيني ويناضل من اجل تحقيقها. وقد كشفت العصبة طبيعة الصهيونية العالمية والأهداف التي كانت تتوخاها منذ أن أسسها تيودور هر تسل في عام 1897. وقد كتب الرفيق فهد في جريدة العصبة عام 1946 إننا لا نرى في الفاشية والصهيونية سوى توأمين لبغي واحد، هي العنصرية. وإن الفاشية والصهيونية تنهجان خطين منحرفين تلتقي وتتشابه أهدافهما. وفضح دور الحكومات العربية المتواطئة مع الاستعمار وأكد على العلاقة الديالكتيكية بين الديمقراطية والنضال ضد الاستعمار والصهيونية.
ووفقاَ لما يشير اليه حنا بطا طو أن الشيوعيين اليهود قبل صدور قرار التقسيم وجهوا طلباَ إلى الزعيم يوسف ستالين يطالبونه بالوقوف بوجه محاولات تقسيم فلسطين. ومما جاء في الطلب إننا نتضرع إليكم أيها الرفيق ستالين أن تؤيدوا قضية فلسطين حيث لا التباس في حق شعب فلسطين بالاستقلال وقضيتهم لا علاقة لها بمأزق اليهود. إننا واثقون من أن حكومتكم التي تعتمد مبادئها وسياستها الخارجية على احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها ستقف إلى جانب العرب في محنتهم.
ويشير الرفيق فهد أن فلسطين لن تتحرر إذا اقتصر أمر تحريرها على إجراءات الحكومات العربية دون أن تشترك الجماهير الشعبية اشتراكاَ فعليا في هذا الكفاح. وبخصوص اعدام الرفيق فهد ورفاقه فإن أغلب المحللين يتفقون أن نضال الرفيق فهد من أجل القضية الفلسطينية وفضحه لمشاريع الاستعمار والحركة الصهيونية واصراره على رفض قرار التقسيم وتحميل الاستعمار البريطاني مسؤولية المشكلة الفلسطينية أدى إلى إعادة محاكمته هو ورفاقه من القادة الشيوعيين واعدامهم في 14 شباط عام 1949 بأوامر بريطانية بعد إعادة شكلية لمحاكمتهم وتغيير حكمهم من المؤبد إلى الإعدام.
ونستنتج من ذلك أن الموقف الذي اتخذه الحزب الشيوعي العراقي كحزب مستقل تجاه القضية الفلسطينية كان موقفا صائباَ بغض النظر عن الموقف الذي اتخذه الاتحاد السوفيتي في تلك الفترة ويؤكد ذلك على الاستقلالية السياسية والفكرية التامة للحزب ويدحض الادعاءات المغرضة التي تتهم الحزب بالتبعية لموسكو الشيوعية سابقا.