بمناسبة يوم المعلم العالمي، في الخامس من أكتوبر من كل عام ، عجت في ذاكرتي اللحظات الأوائل لدخولنا عالما جديدا ونحن نغادر أحضان امهاتنا في أوائل الخمسينيات محملين بأفكار تلفها البراءة والعفوية، وقد هالني الموقف وأنا أترك يد الأم لأول مرة وأدخل بناية المدرسة مع جمع متلاطم من التلاميذ منهم من هم مثلي يدخلون للمرة الأولى ومنهم من كان قبلنا قد جرب هذا العالم الجديد، واستقبلتنا المديرة بوجهها الصبوح وهيئة التدريس والعطر منهن يفوح، البعض يسكن الباكين على أمهاتهم والبعض الآخر ينظم الصفوف ويهدئ، اليافعين ، وتعالى صوت المديرة مجلجلا ، سكوت ، فسكت الجميع ، فخاطبتنا بصوتها أهلا يا أولادي لا تخافوا أمكم في البيت ونحن أمهاتكم في المدرسة ، وبدأت أولى معالم المدرسة تتوضح لنا إلا وهي، رفع العلم، ونشيد، للمرحوم جميل صدقي الزهاوي، عش هكذا في علو أيها العلم .... إننا بك بعد الله نعتصم. وبعد التفتيش دخلنا الصفوف، ومنها تعرفنا أيضا لأول مرة على المعلمة مرشدة الصف.
كانت أنيقة لفتت أنظارنا رغم الطفولة، وكان هادئة الطبع رغم قدرتها على السيطرة، متمكنة من درسها تمليه بشغف وحرقة وتعاقب بأسلوب تربوي من يشاكس أو يكايد زملاءه من التلاميذ. وعندما انتقلنا إلى مدارس الأولاد ، كان المعلم قدوة في النظافة والهندام، شديد الحرص على الدرس كثير المتابعة، تراه يحترم التلميذ وإذا أراد التوبيخ فقد كان بأسلوب متحضر بدأ كل منا يقلده ، المعلم في مدارسنا كان مربيا يعلمنا أهمية الحفاظ على أثاث المدرسة ، عدم تبذير الطباشير، عدم ترك صنبور الماء مفتوحا بعد الاستعمال ، عدم اللعب في الشارع ، وقد كنا كما يعرف الكثير من العراقيين ، لا ننام الليل إذا رآنا المعلم نلعب في الطريق، لقد كان المعلم يلقن التلميذ الوطنية ، ويشرح المناسبات بكل رحابة صدر، وقد كانوا وقودا لتظاهرات عام ٥٦ حيث كان العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، ليتنا نعيد للتعليم روح معلم الخمسين.