إن التطور الحضاري الانساني والتعقيدات المتعددة التي حملها معه، جعلت من التعليم حاجة أساسية من حاجاته، وضرورة من ضرورات بقائه ونمائه وحقا من حقوقه التي نصت عليها جميع المواثيق الدولية وحقوق الانسان وتضمنتها معظم الدساتير والشرائع السماوية السمحاء.
والتعليم مهمة وطنية كبرى فهو مفتاح التطور والتقدم وأداته. وهو أساس تقدم المجتمع ونهضته والعامل الفاعل في خلق الوعي الديمقراطي بين المواطنين والمساعد على إحداث التغيرات المرغوبة لما يقدمه من طاقات بشرية مدربة وملاكات كفوءة تلبي حاجات التنمية البشرية، كما انه في الوقت ذاته يشكل حقا وواجبا على كل فرد وهو الطريق السليم لنجاح الديمقراطية في بلدنا العزيز، فلا يمكن للديمقراطية ان تسود في بلد يعمه الجهل والأمية والتخلف. وعلى مدى هذا التطور وسعته يحصل البلد على المكانة التي يستحقها بين دول العالم وينال مواطنوه الحياة الحرة الكريمة. ولهذا فقطاع التعليم يعد أحد القضايا المهمة التي تستحق كل اهتمام ورعاية من قبل اصحاب القرار وكل الساعين من أجل التغيير نحو الأفضل ونحو بناء المؤسسات الديمقراطية الحقيقية والعدالة الاجتماعية.
إن اصلاح السياسة التعليمية قضية وطنية مهمة تتطلب وقفة جماعية جماهيرية.
في بلدنا نريد الديمقراطية حكما وقيما وأسلوبا لحياتنا وتعاملنا اليومي، فارتباطها بمجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية يجعل صلتها بمجال التربية والتعليم ادق واعمق ,اذ لا يمكن ان تتحقق الديمقراطية في أي مجتمع إلا إذا انتشر فيه التعليم وحصل كل مواطن على حقه منه والذي يعد من أهم حقوق الانسان الاجتماعية والثقافية، وعلاقة الديمقراطية بالتعليم علاقة متبادلة يتوقف كل منها على الاخر ويتأثر كل منها بالآخر، فالديمقراطية لا تتحقق الا في مجتمع متعلم وبين مواطنين متعلمين، وهنا التعليم لا يزدهر وتتعدد فرصه إلا في ظل نظام ديمقراطي سليم.
ومن هذا المنطلق يحتاج بلدنا إلى سياسة تعليمية فاعلة تقود التعليم بما يناسب إمكانيات وطننا ومتطلباته وتواكب المتغيرات العالمية المتسارعة ، فالسياسة التعليمية إذن تشكل جميع القواعد والمباديء والانظمة التي تضعها الدولة لتوجيه التعليم وتنظيمه ليصب في خدمة الوطن ومصلحة المواطن، إنها تحدد إطار التعليم العام وفلسفته وأهدافه بمراحله وأهدافه بمراحله وتنوعاته، انها بوصلة السفينة التي تعطي المسيرة التعليمية مسارها الصحيح وتحدد اتجاهاتها المطلوبة حسب الأهداف المرسومة مسبقا، ولهذا يمكننا القول بأننا لا يمكن أن نعد اجيالنا الإعداد التربوي الصحيح ونرتقي بمجتمعنا الرقي المطلوب إلا بالاستناد على سياسة تربوية تعليمية علمية مستقرة .
إن تعليم النشء الجديد هو قضية وطنية كبرى يجب ان تكون في بؤرة فكر كل المربين والمثقفين والشغل الشاغل لراسمي السياسة ومنفذيها. وهناك تسابق يجري في العالم اليوم للعناية بالطلبة في كافة المراحل وأساليب إعدادهم بشرط أن تكون البداية من الطفولة المبكرة، هذه العناية ليست مجرد رعاية بل إعداد للمجتمع وتكوين لسلاح المستقبل ولا يمكن أن يأتي من فراغ او صدفة او ارتجالا انما وليد دراسات وإعداد طويل محسوب ومكفول له الإمكانات والضمانات التي تصل إلى الغاية المنشودة.
إن الهدف السامي للتربية هو تعلم الجميع تعليما عاليا يساعدهم على تخليصهم من الفقر والمرض والجهل ويحقق مطالب التنمية المستدامة، فالتربية هي الوسيلة الأساسية للازدهار واغناء الانسان بمفاهيم الأخوة والعلاقة الطيبة بين الجميع من أفراد المجتمع واحترام الرأي والرأي الآخر والقيم الديمقراطية والتشبع بروح المسؤولية والارتباط بالوطن والتمسك بحريته وكرامته.
وعلى الرغم من ضخامة المشكلة وتعقدها فان حلولها ليست بعيدة المنال، إنها تتطلب دون شك تظافر كل الجهود لترسيخ قيم وتقاليد تربوية ثابتة ومحترمة قائمة على أسس علمية تربوية لا تخضع للنزوات والآراء الفردية ولا لأهواء بعض المسؤولين الذين يحاولون أن يجيروا التعليم وأهدافه حسب آرائهم الطائفية والعنصرية وحسب ما تقتضيه مصالحهم .ولا يجوز تقييدها بانتماء عقائدي او ايديولوجي او أي غطاء آخر, ولابد لكي نصل إلى هذا الهدف من خطوات أساسية كنشر السلام الجماعي في ربوع الوطن وتعزيز روح المواطنة وتقويم الوحدة الوطنية والولاء للعراق الموحد وتثبيت حقوق الانسان العراقي وإعادة النظر في المناهج التعليمية وطرق التدريس تتماشى مع روح العصر بما يتفق وتأمين مستلزمات التقدم التقني والمادي وإرساء قاعدة تعليمية متطورة وتشجيع الابتكار والبحث العلمي وضمان مجانية التعليم وجعله الزاميا مع القضاء على الأمية بأساليب متطورة بعيدا عن الاساليب الشكلية القديمة, مع الاهتمام بالإدارات والكوادر التربوية ذات الأيدي الأمينة لها خبرتها العلمية والتربوية والاهتمام بالأساتذة والمعلمين والاكاديميين لآنهم ثروة الوطن وتقدمه وتهيئة الظروف الملائمة لهم ورفع مكانتهم الاجتماعية والمعنوية ومستواهم المعيشي والصحي وعدم التفريط بهم باي حال من الاحوال بالإضافة إلى الالتزام بالمصلحة العامة للبلاد ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب والحرص على الديمقراطية في حل مشاكل التعليم برمتها لآننا نرى اليوم ان التعليم في بلادنا يمر بأزمة خطيرة ومرحلة من الفوضى والاضطراب بكثرة انتشار المدارس الاهلية والشهادات المزورة للتعليم العالي، وعدم الاهتمام الكبير للطلبة, لأنهم الأساس الرصين للتعليم والعناية بتكوينه الخلقي والنفسي والعلمي والاجتماعي وعدم التفريط بوقته وجهوده ومعالجة مشاكله بالأساليب السليمة. ولنأخذ عبرا ودروسا من البلدان التي وصل فيها التعليم السليم إلى مراحل متطورة كالصين واليابان ودولة مورسيوش البسيطة الموارد التي فيها التعليم خدمة تقدمها الدولة مجانا للمواطنين وليس سلعة للبيع توفر التعليم مجانا من الروضة حتى نهاية المرحلة الجامعية ويرافقها توفير العلاج والرعاية الصحية مجانا اضافة إلى توفير المستلزمات الدراسية والنقل مجانا لكل الطلبة في جميع مراحل الدراسة (ومن ناحية اخرى نرى في دول القمع الفكري أن ارخص الأجور فيها هو أجر المعلم بالإضافة للإهانة المستمرة من قبل ضعاف النفوس دون رادع , (واذا اردت ان تهدم حضارة فما عليك الا ان تحتقر معلما وتذل طبيبا وتهمش عاملا وتعطي قيمة للتافهين)، وفي مدخل جامعة في جنوب افريقيا كتبت لافتة تقول:
(ان تدمير بلد لا يتطلب قنابل ذرية، يكفي تخفيض نوع التعليم والسماح بالغش في الامتحان حينها سيموت المريض بين يدي الطبيب وتنهار المباني على يد المهندسين ويهدر المال على يد الاقتصاديين وستضيع العدالة امام القضاة، فانهيار التعليم كفيل بانهيار الامة).
ونحن هنا في العراق بلد الثروات والميزانيات الانفجارية والحكومة تلتزم الصمت ومعها وزارة التربية عاجزين عن توفير أبسط مستلزمات التعليم من أبنية مدرسية مستوفات الشروط الدراسية وكوادر لها خبرتها واختصاصاتها. وفي بداية كل عام دراسي تبدأ معاناة الطلبة وذويهم للحصول على مبتغاهم الدراسي يبحثون عنها في طرق اخرى بينما نجد القرطاسية والكتب المقررة أكداسا على الأرض وكل ما يحتاجونه وبطبعات جديدة وبكثرة.. اقول من اين يأتي هؤلاء بهذه المواد المدرسية والدولة عاجزة عن تأمينها للطلبة.. وهل تكرم أحد السياسيين في الشأن التربوي وتجول في شارع المتنبي او بعض الاسواق والمحال التجارية وعلى قارعة الطريق ولاحظ بأم عينه توفر هذه المستلزمات بشكل ملفت للنظر.
وأخيرا وليس آخرا لنا أمل كبير بالجهات المعنية ان تكون السنة الدراسية القادمة أفضل بكثير من مثيلاتها السنوات السابقة.