لم يعد شعار العولمة الذي رفعته الرأسمالية أواسط السبعينات بقادر على حماية نفسه أمام تجاوزات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولم تعد أيضا بواحدة من ثوابت الرأسمالية المقدسة القائمة أيضا على شعار دعه يعمل دعه يمر، الذي رفعه العديد من دهاقنة الاقتصاد الرأسمالي منذ أفكار آدم سمث صاحب كتاب ثروة الأمم. والعولمة تعني حرية التجارة عبر الحدود القومية، حرية حركة الرأسمال الصناعي، وأخيرا حرية عبور الرأسمال المالي، وهي تعد عند الماركسيين جزءا من التنفيس عن ضيق الأسواق الداخلية، والتي أدت إلى التحول من مرحلة الاستعمار القديم نحو الإمبريالية المصحوبة بوسائل الحماية العسكرية، وهكذا تم انشاء قوة المارينز من المرتزقة ومن الشباب المعوزين لتجوب البحار وتختبئ في الخلجان وتستأجر القواعد والأوكار، غير أن الرئيس ترامب ومنذ ولايته الأولى كان يعمل بعكس العولمة فأخذ يفرض التعريفات على الصين، وها هو اليوم في بدء ولايته الثانية يفرض القيود على التجارة مع الجيران في المكسيك وكندا، وانتقل نحو الاتحاد الاوربي بأثقال التعريفات وصولا إلى الصين .
إن مطالبة الرئيس الأمريكي بوضع اليد على قناة بنما، يريد بقوة السلاح قمع العلاقات التجارية الحرة بين بنما والصين، وأنه يريد وضع الولاية على جزيرة كرينلاند لإبعاد روسيا من جهة الجنوب عن تخوم القطب الشمالي بخيراته الكامنة تحت الجليد، وهذه ليست أفكاره هو، إنما هي افكار الدولة العميقة التي تخطط للسياسة الخارجية الأمريكية.
إن حجم تجارة الولايات المتحدة مع المكسيك لعام 2024 حسب مركز الإحصاءات الامريكي بلغت 16 بالمائة، وأن نسبة تلك التجارة لذات العام مع كندا بلغت 14 بالمائة، وأنها كانت مع الصين 11 بالمائة، أي أن حجم التجارة مع تلك الدول كانت 41 بالمائة ، وهي اليوم تخضع لقيود ترامب الكمركية، هذا وقد بلغ حجم التجارة مع الاتحاد الأوربي حوالي 976 مليار دولار، وهو ضئيل بالقياس إلى حجم صادرات الاتحاد الاوربي إلى بقية دول العالم البالغ 2 تريليون و 548 مليار دولار، أي أن حجم الاتجار الأمريكي مع الصين والاتحاد الاوربي لا يرقى إلى مرتبة الخطر على الشريكين، سيما وأن الصين التي بلغت تجارتها البينية مع العالم لعام 2024 ما يقارب 6 تريليون دولار. وبأسلوب تجاري ناعم لا تصاحبه الأساطيل.
إن المقدمات التي جاء بها ترامب عند بداية ولايته القائمة على التهديد بالمقاطعة او بالاستيلاء على بنما او كرينلاند، أو فرض الرسوم الكمركية بنسبة 25 بالمائة، أو إرغام الغير على توقيع الاتفاقيات الاقتصادية، ما هي إلا ركلات للعولمة وهي من ثوابت النظام الرأسمالي، وأنها على ما يبدو سوف لن تؤثر على حجم التجارة الدولية على كل من الصين او الاتحاد الاوربي، وربما سيؤدي تنفيذها إلى قلة الواردات السلعية الرخيصة للمستهلك الأمريكي، بالتالي قلة الإيرادات الكمركية، مقابل تخفيض متوقع يقوم به الرئيس للضرائب في الداخل مما سيجعل الخزانة الأمريكية في الجانب السلبي والأخطر فيما يخص الإيرادات، وعندها سيتراجع الرئيس عن بداياته ممثلا صورة من صور تناقضات الرأسمالية مع ذاتها، وهو ما ينطبق عليه قول ماركس، الرأسمالية تريد أن تجعل من كل الاشياء سلعا، وها هو الرأسمالي، ترامب، يرأس أعلى دولة رأسمالية يريد أن يجعل كل شيء سلعة قابلة للبيع مقابل الاستحواذ على أموال ومقدرات الشعوب.