اخر الاخبار

إن أقسى ما قد يصيب الموظف هو لقمة عيشه وعيش عائلته، لقد تناست وزارة المالية بأن المسّ بالراتب أخطر بكثير من المسّ بأمور اخرى، كونها تمسّ لقمة العيش في حياة الموظف ويشكل دعوة غير مباشرة إلى الثورة والفوضى العارمة، وتقضي على كل ما تبقى من أمن واستقرار.

إن الانصياع إلى برامج المنظمات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي من خلال فرض سياسات تقشف غير ملاءمة لواقع الاقتصاد العراقي حتى وإن كانت قد أثبتت نجاحها في دول أخرى، إلا أنها قد تؤدي إلى نتائج عكسية، لأن التقشف في بلد يفتقر فيه المواطن إلى الأساسيات (الكهرباء، الماء، النقل، التعليم، والصحة) فضلاً عن قطع البنك المركزي الشك باليقين عندما أعلن أن سعر الصرف الجديد للعملة سيرتفع من 1190 إلى 1450 دينارا مقابل الدولار الأميركي، كل ذلك سوف يؤدي إلى إعدام هذا الأخير.

بهذا الصدد يقول البنك الدولي إن إجراءات التقشف يمكن أن تثير مزيدا من الاضطرابات الاجتماعية، مع ضعف الخدمات العامة أصلا وارتفاع معدلات البطالة وإن هذا الضريبة تطبق على الراتب الكلي بدلا من الإسمي ابتداء من الشهر الحالي ويشمل ذلك الراتب الإسمي مع المخصصات.

وستتراوح الضرائب على الرواتب، بين 10 إلى 15 في المئة وتشمل جميع الموظفين الذين تتجاوز رواتبهم 500 ألف دينار عراقي (نحو 400 دولارا اميركيا)، مع وجود استثناءات في ذلك حيث لن يشمل هذا القانون من تقل رواتبهم عن الـ 500 ألف دينار”. وتجميد عمليات التوظيف والعلاوات.

وهذا يخالف النصوص الدستورية بناءً على ما اقره مجلس النواب طبقا لأحكام المادة (61/أولا) من الدستور واستناداً إلى أحكام الفقرة (خامساً /أ) من المادة (138) من الدستور قرر مجلس الرئاسة بجلسته المنعقدة بتاريخ  4 /5 / 2008 إصدار قانون رقم (22) لسنة 2008 (قانون رواتب موظفي الدولة والقطاع العام) المادة (1) منه يهدف هذا القانون إلى تعديل رواتب المشمولين بأحكامه بما يؤمن لهم مستوى معيشي أفضل مع الأخذ بنظر الاعتبار المؤهلات العلمية والمنصب الوظيفي والموقع الجغرافي والخطورة وسنوات الخدمة والحالة الاجتماعية، أما المادة (5) منه تنص على منح العلاوة السنوية للموظف عند إكماله (1) سنة واحدة في الخدمة الوظيفية.

إن موضوع قرار فرض الضرائب على الرواتب وتخفيض المخصصات وبشكل مفاجيء وبدون دراسة مضمونة وفي هذا الشكل، سوف ينعكس سلباً على القدرة (الشرائية في السوق) مما يساعد في زيادة البطالة، إضافةً إلى البطالة الموجودة حالياً وخاصةً نحن بلد نعيش في حالة اقتصاد أحادي الجانب.

وما زاد الطين بلة هو أن الحكومة لم تقم بأي تدبير علمي لتأمين زيادة الرواتب من خلال وقف الهدر، واقفال مزاريب الإنفاق غير المجدي ورفع منسوب الإيرادات إلى أن وصلت إلى الحائط المسدود، وكأن القطاع العام في الدولة هو المسؤول الأساس والمباشر عن وصول الأوضاع المالية والاقتصادية إلى ما وصلت إليه من تردٍ وانحدار، وليس الطبقة السياسية، مع الإقرار بأن فارق الأجور والرواتب للقطاع العام في العديد من البلدان، يتسع في فترات الهبوط الاقتصادي عكس العاملين في القطاع الخاص، حيث يتمتع العاملون في القطاع الحكومي في بلدان كثيرة بالحماية الوظيفية ويحققون دخلا أعلى بنسبة 10 % تقريبا من نظرائهم في القطاع الخاص الذين يتمتعون بمزيج مماثل من المهارات حسب دراسة صندوق النقد الدولي (IMF) التي  قدَّرت متوسط فارق الأجور والرواتب في القطاع العام بنسبة 10.1 %، بحيث يتراوح بين 5.4 % في الاقتصادات المتقدمة و11.7 % في الأسواق الصاعدة، و 12.8 % في البلدان النامية منخفضة الدخل.

ورغم أن تخفيضات الرواتب بإمكانها المساعدة في تلبية احتياجات الإنفاق العاجلة حيثما يكون الحيز المالي محدودا، فمن الضروري توخي الحرص في تصميمها وتنفيذها لكي تنتج عنها الوفورات المنتظرة ولتجنب التبعات غير المقصودة، وعلى الحكومات التي تنظر في اعتماد مثل هذه الإجراءات توفير المواصفات التالية:

  • التصاعدية (تختلف التخفيضات باختلاف مستويات التعويضات) حيث تشير اعتبارات التضامن والمساواة إلى تحمل الموظفين العموميين الأعلى دخلاً النصيب الأكبر في هذه الأعباء. ويمكن استبعاد الموظفين العموميين الأقل دخلاً تماما من أي تخفيضات في التعويضات لتجنب خلق أوضاع الفقر دون قصد.
  • استثناء الموظفين في القطاعات ذات الاولوية :

من الضروري أن تستثنى من هذه التصحيحات رواتب الموظفين العموميين في بعض القطاعات بغض النظر عن مستويات دخولهم، إذا كانوا، مثلا، يشاركون بشكل مباشر أو غير مباشر في الاستجابة للأزمة. وهذا يشمل الموظفين في قطاع الصحة (كالأطباء، والممرضين، والعاملين في خدمات الطوارئ، ورجال الاسعاف، وغيرهم (والقائمين على توصيل البضائع التي تعتبر ضرورية، والموظفين العموميين المشاركين بشكل مباشر في ضمان دقة عمل واستقرار سلسلة التوريدات الغذائية والطبية.

نعود الى جوهر مقالنا هل تمّت دراسة الانعكاسات الكارثية التي قد تترتّب عنه على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي العام، كون عدم المسّ برواتب الطبقة الوسطى باعتبارها تشكل رافعة الاقتصاد وعماد الناتج القومي.

وينبغي بذات الاتجاه معرفة الآثار النفسية والاجتماعية لدى الموظفين جراء فقدان الراتب أو تدهور الوضع المادي للفرد والذي يؤثر بدوره على الصحة الجسمية والنفسية له، فيجعله أكثر عرضة للتأثر بأحداث الحياة، كما أن تخفيض الرواتب يجعل الفرد يعيش تقريبا في حالة من الوحدة النفسية لعدم قدرته على المشاركة في أية أنشطة اجتماعية، وعجزه عن توفير الأموال التي تساعده على توفير قوته اليومي فتؤدي إلى فقدان المكانة الاجتماعية في المجتمع لهذا الفرد، ويتجنب الاتصال بالآخرين، ويفضل أن يعيش في عزلة دائمة، واعتناق أفكار هدامة، حيث أن راتب الموظف في ظل الظروف الطبيعية لا يكفيه أكثر من نصف الشهر وأحيانا أقل من ذلك، لدرجة أنه يمكن القول بأن أكثر من ثلثي الموظفين يصنفون ضمن  الفقراء، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الموظف الذي يتقاضى راتبه لا يرى أي جدوى من وجوده في هذا العمل، فإنه يدرك ما عليه من واجبات، وبالتالي فإن الراتب يظل هو كل حياته.

أن سياسة فرض عملية خنق اقتصادي واجتماعي للموظف تشمل محاربتهم في وسائل عيشهم، وتضييق الخناق عليهم، تخلف آثارا خطيرة على مستوى تمتع الموظفين بحقوقهم الاقتصادية، والاجتماعية، وتؤدي إلى تفاقم حدة الفقر، والبطالة أصلاً، مما ترتب عليه انخفاض في مستوى المعيشة.

ولا يخفى عن الجميع أن العراق مليئ بالتناقضات، ومشبع بروح التشاؤم، والتمرد الداخلي على كل الاوضاع القائمة، فإنه من الطبيعي أن يكثر التفكير في البحث عن كيفية إشباع الفرد لحاجاته، أي الحصول على ما يؤمن له حاضره ومستقبله، لإدراك المواطن والموظف بأن الحكومة وصلت إلى مرحلة أصبحت فيها غير قادرة على تلبية احتياجات هؤلاء الموظفين، مما يعني فقدانهم الحد الأدنى من الشعور بالأمان والطمأنينة، الأمر الذي جعل من البيئة المعيشية بيئة من البيئات الضاغطة الصعبة، مما جعل الموظف يعيش في حالة من اللامبالاة، وفقدان الشعور بمعنى وجوده في هذه الحياة.

وتكمن المفارقة في أن المفسد الذي أوصلنا إلى هذا المأزق، اعتلى قوس العدالة وقرر محاربة الموظف في لقمة عيشه وتهديد استقراره الاجتماعي، بسبب ما أحدثه استحواذ أحزاب السُلطة والقرار وعِبر مكاتبها الاقتصادية على مُقدرات الدولة وسط غياب الإجراءات الرقابية الحقيقية للدولة، كما لا يخفى على أحد أن أهم الأسباب التي ساعدت كُل ذلك التدمير هو غياب الروح الوطنية والولاء واستشراء الفساد وغياب الإرادة الحقيقية لبناء دولة المؤسسات والمواطنة وفق مبادئ العراق وطن الجميع وعلى الجميع مهمة العمل لبنائه وتطويره.

ومن ثم فأن أي إصلاح اقتصادي وإداري لا يتضمن تحسين الأجور بشكل رئيسي يعد برنامجاً قاصراً لا يمكن أن يحقق النتائج المطلوبة، وعلى رأسها الرواتب أحد أهم برامج الإصلاح الاداري في العنصر البشري والذي يشكل أحد أهم عناصر الإنتاج التي تؤثر بشكل مباشر على نجاح المنظمات على اختلاف انواعها، فضلاً عن أنه يلعب دوراً هاماً وحيوياً في تحقيق الأهداف والخطط الموضوعة.