اخر الاخبار

لطالما كان الشرق الأوسط بؤرةً للأزمات المتشابكة والمعقدة، ويكاد لا يخلو أي عقد زمني من تكرار الصراعات والحروب في هذه المنطقة، حتى بات يُنظر إليها بوصفها تجسيدًا حيًّا للأزمات البنيوية والسياسية والاجتماعية، بل ويمكن القول إن أزمتها نابعة من طبيعة التسمية ذاتها، فمصطلح "الشرق الأوسط" لم يكن من اختيار شعوب المنطقة، بل صيغ في الأدبيات الاستعمارية الغربية منذ أواخر القرن التاسع عشر، قبل أن تتبنّاه الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الأولى، ضمن رؤية مركزية أوروبية ترسّخ تفوّق الغرب واعتباره مركز الحضارة.

هذا المصطلح الاستعماري لا يزال يُستخدم حتى اليوم، دون أن يكون لشعوب المنطقة رأي في تسميته أو تعريف ذاته، وهو يعكس إرثًا طويلًا من التدخل الأجنبي وهيمنة القوى الكبرى التي لم تكتفِ بإعادة رسم الحدود السياسية بعد انهيار الدولة العثمانية، بل فرضت نظمًا سياسية واقتصادية تخدم مصالحها، خصوصًا في ما يتعلق بالثروات الطبيعية كالنفط والممرات المائية.

إن من أبرز تجليات الأزمة في الشرق الأوسط هو غياب الدولة الوطنية المستقرة، إذ أن تقسيم المنطقة وفق اتفاقية سايكس- بيكو وتأسيس دول على أساس مصالح استعمارية لا على أسس تاريخية أو اجتماعية متجانسة، أنتج أنظمة هشة وغير قادرة على تلبية تطلعات شعوبها. وقد ترافق هذا مع أزمات متفاقمة في مجالات عدة، منها:

ــ استمرار الحروب والنزاعات الطائفية والسياسية، من فلسطين إلى سوريا واليمن ولبنان، وتصاعد ظواهر الميليشيات والتنظيمات المتطرفة، بالإضافة إلى بروز محاور إقليمية متنافسة مثل إيران وتركيا.

ــ تعميق الانقسامات المذهبية والطائفية، وتوظيفها في الصراعات السياسية من قبل الأنظمة الحاكمة لترسيخ سلطتها.

ــ هيمنة الأنظمة الديكتاتورية التي تعيق التحول الديمقراطي، وتنتهك حقوق الإنسان، وتمنع مشاركة المعارضة أو تمثيل الأقليات والنساء.

ــ الاستغلال الاقتصادي من قبل القوى العالمية، عبر التدخلات العسكرية المباشرة أو غير المباشرة، كما في حالات التدخل الأمريكي والروسي، أو دعم أنظمة استبدادية وميليشيات.

ــ فشل مشاريع التنمية بسبب التبعية الاقتصادية والفساد البنيوي، مما أدى إلى تفشي البطالة والفقر والتهميش الاجتماعي.

ــ هذه الأزمات تشكّل بمجموعها ما يمكن وصفه بـ "أزمة شاملة متعددة الأبعاد"، تُغرق المنطقة في دوامة من اللااستقرار والعنف.

في ظل هذه التحديات، طُرحت عدة مشاريع دولية للتعامل مع أزمات المنطقة، أبرزها:

  1. الفوضى الخلّاقة (Creative Chaos)

قدّمتها كوندوليزا رايس، مستشارة الأمن القومي ووزيرة الخارجية الأمريكية خلال عهد بوش، بزعم أنها تهدف إلى نشر الديمقراطية وتفكيك الأنظمة القديمة وبناء أنظمة جديدة. لكن هذه السياسة عمقت أزمات الدولة، وزادت من تفشي الميليشيات والتنظيمات الإرهابية، وساهمت في تعميق التدخل الخارجي.

  1. اتفاقيات أبراهام (Abraham Accords)

هدفت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية (الإمارات، البحرين، المغرب، السودان) في عهد ترامب. وقد رُوّج لها على أنها بوابة للتعاون الاقتصادي والتكنولوجي، وتقليل عزلة إسرائيل، ومواجهة إيران، لكنها لم تساهم في حل القضية الفلسطينية، ولم تؤسس لسلام حقيقي، بل عمّقت الانقسامات، وزادت من تطبيع الخلافات الدينية، ورسّخت الانقسامات داخل المجتمعات العربية.

  1. مشروع الشرق الأوسط الجديد

ويُطلق عليه أحياناً "الشرق الأوسط الكبير"، وروّجت له الولايات المتحدة في بدايات القرن الحادي والعشرين، من أجل إحداث تغييرات سياسية واقتصادية وثقافية. ويمكن اعتبار "الفوضى الخلاقة" و"اتفاقيات أبراهام" جزءاً من هذا المشروع. لكن خطوات هذا المشروع زادت من عسكرة المنطقة والحروب، ولم تُفضِ إلى تنمية عادلة، بل صبّت في مصلحة القوى الرأسمالية والهيمنة الإمبريالية.

وعموماً أن "الشرق الأوسط"، كما أنتجته اتفاقية سايكس – بيكو، وبالآليات التي أُعيد إنتاجه بها على مدى أكثر من قرن، لم يعد قادراً على الاستمرار وفق النموذج السابق.

ورغم الطروحات المتكررة لإعادة هيكلة المنطقة تحت عنوان "الشرق الأوسط الجديد"، كما طُرح في مشروع "الفوضى الخلّاقة" الذي روجت له إدارة بوش عبر وزيرة خارجيته كونداليزا رايس، أو "اتفاقيات أبراهام" في عهد ترامب، إلا أن هذه المبادرات لم تنجح في بناء شرق أوسط مستقر أو عادل، بل على العكس، زادت من تفكك المجتمعات وعمّقت الاستقطاب.

إن فشل هذه المشاريع يعود إلى أنها صُمّمت وفق منظور القوى العظمى ومصالحها الجيوسياسية والاقتصادية، دون اعتبار حقيقي لإرادة شعوب المنطقة وحقها في تقرير مصيرها. وبالتالي، فإن الخروج من هذا المأزق التاريخي يتطلب مشروعًا محليًا-وطنيًا بديلًا، ينبع من داخل المنطقة، يقوم على التعاون الإقليمي الحقيقي، وضمان الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية لجميع المكونات، بما في ذلك الاعتراف بحقوق الشعب الكردستاني في تقرير مصيره وضمان حقوق المكونات والأقليات المهمشة.

فقط عبر بناء دول ديمقراطية عادلة تستند إلى إرادة شعوبها، والتوجه نحو مستقبل مصير مشترك للشرق الأوسط يمكن لهذه المنطقة أن يتحرر من إرث سايكس- بيكو، ويؤسس لمرحلة جديدة من الأمن والسلام والتنمية، بعيدًا عن هيمنة القوى الخارجية ومشاريعها المفروضة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الكردستاني

عرض مقالات: