اخر الاخبار

ما حصل في تشيلي خلال شهر، من ١٨ تشرين الأول ٢٠١٩ إلى ١٦ تشرين الثاني، والذي عرف بـ«الانفجار الاجتماعي»، وما تلاه وأدى إلى انتخاب مجلس تأسيسي وإلى وصول «الشاب» غبريال بوريتش** ومعه جيل ثلاثيني إلى سدة الرئاسة وإلى المراكز الأساسية في الحكومة، هو قصة انتصار انتفاضة نضالية يجب سردها. وليس الغرض من السرد أن يشعر «الحراك» اللبناني أو العراقي بالذنب أو بالإحباط، بل لأن الانتفاضة مسرب يعيدنا إلى الرئيس سالفادور ألليندي وإلى كل حقبة ما بعد خروج الجنرال بينوشيه من الرئاسة، وقد دامت حوالي ٣٥ عاما، من جهة، ويصلنا بصفحة جديدة تدشن كتابتها بدءًا من آذار ٢٠٢٢ (تاريخ تسلّم بوريتش منصبه الرئاسي)، من جهة أخرى.

شهر من النضالات والقمع

٦ تشرين الأول: بدأت القصة بقرار بسيط قضى برفع تعرفة نظام النقل العام في منطقة سانتياغو، عاصمة تشيلي. لم تكن الزيادة كبيرة بحد ذاتها، ولم يُعرها أحد أهمية خاصة. بعد أيام على رفع التعرفة، كان الرئيس اليميني سيبستيان بينييرا يصف البلد في برنامج إذاعي على أنه «واحة من الاستقرار» ويقارنه متهكما بدول أخرى في المنطقة.

اتفق مئات الطلاب الثانويين على التهرب من الدفع في محطات المترو. ومع مرور الأيام، ازداد عدد المتهربين من غير الثانويين ما أدى إلى مشاكل داخل المحطات عرفت ذروتها نهار الجمعة ٨ تشرين الأول عندما وقعت صدامات مع قوات الشرطة أدت إلى توقف عمل الشبكة. حرك وزير الداخلية قانون أمن الدولة لقمع التجاوزات فصب قراره الزيت على النار. تضاعفت الصدامات والحرائق في مختلف أنحاء المدينة. فجر اليوم التالي، أعلن بينييرا حالة الطوارئ في العاصمة ومنع التجول في الليل، فانتقلت التظاهرات إلى كبريات المدن الأخرى. في خطاب للأمة ليل السبت ١٩ تشرين الأول، أعلن الرئيس مشروع قانون لتجميد زيادة التعرفة وأقره مجلسا النواب والشيوخ. ولكن لم تعد المشكلة محصورة بالتعرفة، إذ انتشرت الحرائق وتزايدت عمليات نهب المحلات التجارية، وتحول يوم الأحد ٢٠ تشرين الأول إلى يوم أسود وجدت خلاله جثث خمسة قاصرين في محل محروق، فيما سقط ثلاثة متظاهرين برصاص الجيش.

أطل الرئيس مجددا ليعلن «الحرب على عدو يخوض حربا ضد كل التشيليين الذين يريدون العيش بحرية وسلام» وإنزال ٩٥٠٠ جندي إلى الشارع للمساعدة على حفظ الأمن. لم يلق الخطاب الجديد استحسانا حتى من قائد الجيش الذي علّق قائلا «لست في حرب مع أحد». أما المعارضة فأعلنت أنها «ليست حربا، إنها غضب اجتماعي». كرد فعل على خطاب الرئيس الأمني، دخلت الطبقات الوسطى في الحراك وكبر حجم التظاهرات وارتفع عدد المشاركين في الندوات التي صارت تنظم في نهايتها. أطل بينييرا للمرة الثالثة، ليل ٢٢ من الشهر نفسه، واعترف بأنه أخطأ وتحدث عن «روزنامة اجتماعية جديدة» تتضمن رفع الحد الأدنى للأجور، وزيادة المعاشات التقاعدية، ودعم الأدوية لتخفيض سعرها، وتأجيل الزيادات على أسعار المحروقات. بعد إعلانات الرئيس، انضمت إلى الحراك قطاعات جديدة، منها قطاع سائقي الشاحنات والسيارات العمومية الذين أخذوا يقطعون الأوتوسترادات مطالبين بتخفيض تعريفات المرور عليها. يوم ٢٣ تشرين الأول كانت حالة الطوارئ قد شملت ١٥ عاصمة مناطقية من أصل ١٦.

بدأ الأسبوع الثاني للانتفاضة بتظاهرات في المدن كافة وأكبرها في العاصمة سانتياغو شارك فيها مليونان ومئتا ألف متظاهر، في ما اعتبر أكبر تظاهرة في تاريخ تشيلي. أمام ضخامة الحشد، حاول الموالون تصويرها على أنها «تعبير شعبي صادق غير موجه ضد أحد» مع أن أجزاء كبيرة من التظاهرة كانت تطالب باستقالة الرئيس. بعد ذلك المشهد، لم يبق أمام الحكومة سوى رفع حالة الطوارئ وتقديم استقالتها ليؤلف الرئيس حكومة جديدة. ومع انسحاب الجيش من الشوارع، صارت التجمعات تقليدا يوميا ينتهي باشتباكات بين متظاهرين راديكاليين وقوات الشرطة. ليلة ٢٨ تشرين الأول، عاد العنف ومعه الحرائق وعمليات النهب والتكسير. نسبته الحكومة إلى عنفيين متسللين بين المتظاهرين، فيما رأى فيه هؤلاء مؤامرة تنفّذها الحكومة بواسطة اليمين المتطرف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجلة (بدايات) – العدد 34 - 2022

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*صحفي لبناني

**ولد غبريال بوريتش عام ١٩٨٦ في «بونتا آريناس» أسفل جنوب تشيلي والقارة الأميركية الجنوبية في أقرب نقطة من القطب الجنوبي قرب مضيق ماجيلان، أهم الممرات المائية الطبيعية بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ. عائلة أبيه من أول عشر عائلات كرواتية هاجرت إلى تشيلي في نهاية القرن التاسع عشر. وعائلة والدته إسبانية الأصل من كاتالونيا. عام ٢٠٠٠، ساهم في إعادة تأسيس اتحاد الطلاب الثانويين. ثم انتقل عام ٢٠٠٤ إلى سانتياغو ليتابع دروسه في المحاماة. ولم يحصل الشهادة التي تسمح له بممارسة المهنة. انتسب في الجامعة عام ٢٠٠٨ إلى مجموعة «اليسار المستقل» وكان من أهم قياديي الحراك الطلابي عام ٢٠١١ الذي طالب بدمقرطة التعليم، وانتخب رئيسا لاتحاد طلبة تشيلي بعدما تغلب على لائحة الرئيسة السابقة للاتحاد كاميلا فاليخو الشيوعية (التي صارت نائبة رئيس الجمهورية). انتخب عام ٢٠١٣ نائبا عن منطقة «بونتا آريناس»، وهو من أول نماذج النواب المستقلين الذين انتخبوا خارج الائتلافين الكبيرين، وأعيد انتخابه عام ٢٠١٧ على لائحة «الجبهة العريضة». عام ٢٠١٣، أسس مع آخرين حملة Marca AC التي كانت تطالب على الدوام بمجلس تأسيسي يتولى صياغة دستور جديد. عام ٢٠١٦، استقال بوريتش مع مجموعة من «اليسار المستقل» لتأسيس مجموعة «طلاب مستقلون» الأكثر انفتاحا على المجموعات والأحزاب اليسارية الأخرى، وساهم مع صديقه جورجيو جاكسون في هندسة ائتلاف «الجبهة العريضة» الذي تحول في انتخابات عام ٢٠١٧ إلى ثالث ائتلاف من حيث حجم كتلته النيابية. عام ٢٠١٨، ساهم في تأسيس حزب «الحشد الاجتماعي» الناتج من اندماج أربع مجموعات يسارية. عام ٢٠١٨ وفي خطوة لافتة، طلب إجازة من مجلس النواب لدخول مستشفى الأمراض العقلية (خلال أسبوعين (وهو يعاني مما يعرف بالـ TOC أي اضطراب الوسواس القهري لتسليط الضوء على واقع الصحة النفسانية في البلد.

لعب دورا أساسيا في الاتفاق الذي أدى إلى تنظيم الاستفتاء من أجل دستور جديد، والذي نجم عنه انشقاق في «الجبهة العريضة» وفي حزبه لأن المعترضين اعتبروا أنه لم يستأذنهم لتمثيلهم، ذلك أن أكثرية الثلثين تقلص إمكانيات التغيير في الدستور الجديد، ما اضطره إلى توقيع الاتفاق بصفة شخصية. ثم أبدى استعداده لتحمّل عقوبة الطرد إذا قررت هيئات الحزب والجبهة ذلك، لكنه لم يُطرد بل اختير لكي يكون مرشح الهيئتين في الانتخابات الرئاسية، مع أنه صرح مرتين عامَي ٢٠١٩ و٢٠٢٠ بأنه تنقصه «التجربة الكافية» لمنصب كهذا. حث على ائتلاف «الجبهة العريضة» مع «تشيلي الكرامة» (الذي يضم «الحزب الشيوعي») فشكلا ائتلافا سياسيا باسم «أؤيد الكرامة». جريا على التقليد السياسي التشيلي، نظم هذا الائتلاف انتخابات تمهيدية فاز بها بوريتش بـ٦٠٪ من الأصوات على حساب عمدة منطقة فقيرة في سانتياغو، الشيوعي فلسطيني الأصل دانييل جودة (الذي كان مرجحا فوزه). لبوريتش مواقف نقدية من أنظمة نيكاراغوا وفنزويلا اليسارية، فهو يقول «لأن خيارنا هو بناء يسار يلتزم الديموقراطية وحقوق الإنسان، يسار قادر على القيام بالنقد الذاتي حيث يجب». غبريال بوريتش أصغر الرؤساء سنا في العالم وأصغر رئيس في تاريخ تشيلي. وهو يمثل نموذجا من قياديين سياسيين جدد يوفق بين فكر يساري راديكالي متجدد مع حاسة سياسية لافتة وقدرة مميزة على التفاوض.

عرض مقالات: