اخر الاخبار

العراق يمر بمنعطف قانوني وسياسي خطير بسبب تعاظم أزمته البنيوية بشكل متسارع حيث تتحول المعركة الفكرية والقانونية ضد طوابير الفساد المالي والاداري بالعراق لشبه شلل كامل بسبب غياب الإرادة السياسية الجادة للتصدي لرؤوس الفساد، أضافة لهيمنة قوى المحاصصة على سلطة اتخاذ القرار في الدولة، حيث تحول العديد من مؤسسات الدولة ومرافقها العامة إلى منتج لهذا الفساد المالي والإداري أضافة لترهل وتعدد وتضارب أجهزة الرقابة وتنامي هيمنة المصالح الحزبية الريعية الضيقة على المراكز المالية بالعراق، كما انه يجب أن لا ننسى حجم وتأثير قوى التضليل السياسي والإعلامي كواجهة لشرعنة هذا الفساد والمتعكزة أحيانا على مراكزها الحكومية والمتسيدة بأحزمة السلطة العامة والتي بدأت هي الاخرى ترفع شعارات مكافحة الفساد من اجل تعويق المشروع الوطني لمكافحة الفساد,

وهكذا نجد للأسف أن مجلس النواب العراقي تحول زمنيا من مؤسسة تشريعية ورقابية إلى جهاز للإثراء وإلى سوق متحركة للأوراق النقدية وللمضاربات التجارية، ولا نبالغ اذا قلنا إنه تحول لإحدى حواضن أنتاج وشرعنة الفساد المالي بالعراق، حيث أقدم مجلس النواب لأكثر من مرة على إصدار قوانين (العفو العام)والتي سمحت وساهمت عن كثب في إطلاق سراح المئات من الفاسدين وسراق المال العام والإرهابيين، كما ويجب أن لا ننسى أن مجلس النواب العراقي هو أول من أصدر قانونا للمحاصصة السياسية بالعراق (رقم44 لسنة 2008). والذي تم بموجبة توزيع المغانم والمناصب الحكومية العليا والهيئات المستقلة على الاحزاب السياسية المتنفذة بعيدا عن اعتبارات ومعايير الكفاءة والشهادة والنزاهة والاختصاص الوظيفي، وبذلك أرسي مقدمات لشرعنة الفساد بالعراق!! أن هذه القرصنة التشريعية يقابله الكثير من التغليس من قبل أجهزة رقابة المشروعية في محاسبة ومحاكمة قادة الفساد عند سرقتهم للمال العام أثناء تواجدهم في إشغال الوظيفة الحكومية وليس بعد هروبهم أو خروجهم من الوظيفة العامة، كما أن قانون المحاصصة السياسية الذي أصدره مجلس النواب العراقي والمرقم 2008/44 قد أرسى ظاهرة الفساد والمحاصصة بالعراق. كما انه يشكل اعتداءً صارخا للقيم والاصول الدستورية وخاصة المادة 14 من الدستور العراقي النافذ والتي تقول (العراقيون متساوون أمام القانون….) حيث أرسى وكرس قانون المحاصصة هذا انماطا مشوهة للثقافة القانونية بالعراق؟ حيث تقول المادة 06 من قانون المحاصصة 2008/44: (تنفيذ مطالب القوائم والكتل السياسية وفق استحقاقاتها في أجهزة الدولة لمناصب وكلاء الوزارات ورؤساء الهيئات والمؤسسات والدرجات الخاصة وعلى مجلس النواب المصادقة على هذه الدرجات).

ولو ألقينا نظرة حول الطبيعة الدستورية لقانون المحاصصة هذا من الناحية القانونية نجدة باطلا بطلانا مطلقا لأنه صدر بغياب السند الدستوري لإصداره!! حيث أن فلسفة وعلم القانون يشيران إلى أنه لا يجوز قانونا إصدار اي تشريع بغياب سند وقاعدة دستورية تجيز صدوره. كما أننا لو قمنا باستقراء المادة 61 من الدستور العراقي النافذ والتي حددت صلاحيات واختصاصات مجلس النواب العراقي لا نجد فيها ما يشير لتوزيع المناصب العامة على أساس المحاصصة للأحزاب الفائزة بالانتخابات، وهذا اختصاص افتعله مجلس النواب خارج الضوابط الدستورية.

 كما أن المحكمة الاتحادية العليا قد اصدرت حكمها القضائي المرقم 2019/89 بإلغاء المادة 60 من قانون المحاصصة السياسية وعدم دستورية توزيع المناصب العليا على اساس المحاصصة الحزبية، إلا أنه مع ذلك لم يذعن مجلس النواب لحكم المحكمة الاتحادية العليا واستمر في الالتفاف على حكم القضاء وهذا مما يعرض رئيس مجلس النواب وهيئة رئاسة المجلس تحت طائلة القانون.

أن عمليات الافلات من العقاب تأخذ صورا وأشكالا متعددة ومرعبة أحيانا حيث يجري تجميلها بمحاججات وعناوين العقلانية القانونية والسياسية وحلول ترقيعية تعمل عن كثب أساسا على تكريس ظاهرة الفساد المالي والاداري بالعراق. ونستطيع القول ذلك لا يسهم في إيجاد الحلول والمعالجات الجادة في عملية مكافحة ثقافة الفساد بالعراق. خاصة ونحن لم نشاهد على مديات الزمن العراقي البعيد منذ 2003 ولحد الان أن فاسدا بارزا سواء أكان وزيرا او سفيرا او عضوا بمجلس النواب قد دخل قفص الاتهام وتمت محاكمته أثناء شغلة لمركزة القانوني والوظيفي؟ كما أنه من المدهش حقا أن نشاهد إرهابيا أو سارقا يعترف من على شاشات التلفزيون بجرائمه ولصوصيته ولكن بعد حين نجدة نائبا بالبرلمان او وزيرا ومسؤولا متنفذا؟ كما يجري للأسف بشكل ممنهج الإفلات من العقاب حيث نشاهد انه يتم مسلسل إعادة محاكمة العديد من شخوص ومافيات الفساد واللصوصية القابعين بالسجون والذين أدينوا بأحكام قضائية باتة وقطعية في محاولة لتخفيف هذه الاحكام القضائية تمهيدا لإطلاق سراحهم واعادة تدويرهم وإنتاجهم، وهذه الممارسات بشكل واضح تشكل انتهاك لمبدأ سيادة حكم القانون واعتداءً على مسلمة (أن حكم القضاء هو عنوانا للحقيقة)، لابل أن هذه الممارسات ستؤدي عمليا إلى ظاهرة الافلات من العقاب وتوفر حاضنة لممارسة الجريمة المنظمة!! وقد كان رئيس المحكمة الاتحادية العليا مصيبا حين أكد على استفحال ظاهرة الفساد الحكومي قائلا (إن المواطن العراقي فقد ثقته بالوظيفة العامة بسبب استشراء الفساد المالي والاداري بين الموظفين). ولا يفوتنا الإشارة بجدارة على أهمية البيان الصحفي للمحكمة الاتحادية والصادر يوم الأربعاء المصادف 2023/1/4 والذي أكد فيه صراحة (بأن خرق الدستور يرتب المسؤولية الشخصية ويجب ان لا يكون المنصب الوظيفي حاميا لمن يخالف الدستور او القانون). وكم نتمنى ان تقترن بذلك الاقوال بالأفعال في حماية المال العام والذي أكدته أيضا المادة 27/أولا من الدستور العراقي لسنة 2005 بالإشارة إلى أن (للأموال العامة حرمة وحمايتها واجب على كل مواطن)، ولذلك أرى هنا بانه لا توجد اية مسوغات قانونية أو وطنية للتهاون او المساومة في اطلاق سراح سراق المال العام تحت ذريعة الغاء التشريع رقم 1994/120 والصادر من مجلس قيادة الثورة سابقا والقاضي (بعدم أطلاق سراح المحكوم عن جريمة اختلاس او سرقة أموال الدولة مالم تسترد منه هذه الاموال جميعها)، وان يكون ذلك تبريرا لإطلاق سراح نور زهير او هيثم الجبوري!! لان هذه الجرائم المالية هي بالضرورة القانونية جرائم اختلاس للمال العام من قبل المؤتمنين علية، وقد تصل عقوبتها بقانون العقوبات العراقي إلى السجن المؤبد في حالة وجود الظروف المشدد لها، خاصة إذا كان مرتكب لجريمة سرقة المال العام (مأمور تحصيل او امين صندوق مالي او صيرفي)، وهنا تتحول من جريمة سرقة عامة تحديدا إلى جريمة اختلاس للمال العام، لأن هناك توصيفا قانونيا يفرق بين جريمة السرقة للمال العام وجريمة الاختلاس للمال العام لمن عهدت الية رعاية وحماية المال العام وتقع تحت سلطته، لأن السرقة نعني بها قانونا هو الاستحواذ او الاستيلاء على منقولات الغير دون موافقتهم او رضاهم او بإرادتهم، أَما جريمة الاختلاس فهي جريمة سرقة للمنقولات يقوم موظف بارتكابها بسرقة المال العام الذي تحت عهدته وحمايته او سلطته وتحويلة إلى مال خاص للسارق، ولهذا فالسرقة قانونا هي اعتداء على أموال منقولة لشخص ما، بينما الاختلاس فهو جريمة تشكل اعتداءً على المجتمع كله، ولذلك تم تشديد (جريمة الاختلاس) والتي قد تصل للسجن المؤبد وجريمة السرقة بالسجن بعقوبة لا تزيد عن 10 سنوات. وختاما يمكننا القول إن أساس وجوهر جريمة الاختلاس هو جريمة السرقة بالمفهوم الواسع قانونا، ولذا نرى أن جريمة العصر بسرقة المال العام هي جريمة اختلاس للمال العام وعقوبتها قد تصل حتى إلى السجن المؤبد تشديدا.

ـــــــــــــــــــــــــــ

*حقوقي واستاذ جامعي

عرض مقالات: