اخر الاخبار

في الذكرى الستين لانقلاب 8 شباط الأسود، يتجدد النقاش وتتباين الآراء بشأن ثورة 14 تموز المجيدة، باعتبارها محطة تاريخية هامة طبعت الحاضر العراقي منذ انتصارها، وسترافق الصراع والنقاش بشأن مستقبل العراق المرجو، فمنذ اغتيال الثورة في الثامن من شباط 1963 دخل العراق دهاليز مظلمة لا زالت تتواصل إلى يومنا هذا. وإذا كان الحديث عن الانقلاب لا يمكن أن يتجاوز جرائم الانقلابيين البشعة وغير المسبوقة في حينه، فإن الحديث عن مقاومة الانقلاب الباسلة والتضحيات الاستثنائية التي قدمت فيها، لا يمكن ان تكتمل، دون الحديث عن رمزها وقائدها الشهيد سلام عادل، الذي ستمر بعد أيام قليلة الذكرى الستين لاستشهاده البطولي في أقبية قصر النهاية، على أيدي انقلابيي 8 شباط وجلاديه.

وفي هذه المناسبة يتجدد الحديث عن هذا الرمز الوطني والقائد الثوري الفذ، وجرى ويجري تنظيم العديد من الفعاليات ونشر الكثير من المساهمات ووجهات النظر التي تتناول سيرته وانجازاته، وظروف اعتقاله واستشهاده. وفي هذا السياق يتجدد النقاش، ضمن أمور أخرى عن رؤيته الفكرية وأدائه السياسي، وعلى الرغم من اعتباره زعيما وطنيا ورمزا عراقيا، يتجاوز تأثيره حدود الحزب الشيوعي العراقي ومعسكر اليسار، يشار إلى “ تطرفه” وعدم قدرته على رؤية حجم تأثير الدعم الإقليمي الذي تمتع به البعثيون وقوى معسكر الانقلاب. فهل كان سلام عادل متطرفا؟

واسهاما مني في استذكار شهداء الشعب والوطن من شيوعيين ووطنيين عراقيين، سأطرح وجهة نظر متواضعة، في سعي للرد على السؤال المذكور.

أعتقد أن قراءة موضوعية لسيرة الشهيد النضالية منذ ارتباطه بالحزب حتى لحظة استشهاده، تشير إلى تمتعه بذهنية واقعية وانفتاح غير مسبوق، وحرصه على توسيع المشاركة، وعدم اقصاء الشركاء، وروح نضالية، والتزام وتواضع شديدين، ومبدئية عالية في التعامل مع الأحداث والرفاق المحيطين به، ربما كانت الأخيرة وراء التقديرات التي اعتبرها خاطئة إزاء معارضيه من قادة الحزب في حينه.

تعلمنا الحياة والتجربة الملموسة أن قراءة سلام عادل لطبيعة ثورة 14 تموز وطبيعتها الوطنية الديمقراطية كانت صحيحة، والتي على أساسها جاء سعيه ورفاقه لتجذير هذه الطبيعة واستكمال مشروع الثورة الديمقراطي، ومن ثم الدفاع عنها بكل الإمكانيات المتوفرة وبشجاعة قل نظيرها، كذلك كان تحليله صائبا لشخص الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم وسياساته الوسطية، التي قادته إلى عدم التفريق بين أنصار الثورة واعدائها، بالإضافة إلى قناعة الزعيم، بأنه الوحيد القادر على حماية الثورة وقيادتها. وبالقدر نفسه كانت قراءة سلام عادل لطبيعة قوى معسكر الردة، والانقلاب وطبيعته وذراعه السياسي المتمثل بالبعث وشلة من الضباط القوميين، صحيحة هي الأخرى.  ولا نأتي بجديد، إذا أشرنا إلى العنف والقتل الجماعي الذي مارسه البعث بقيادة صدام حسين، والذي لا ينحصر بالشيوعيين، أو بخصومه السياسيين في أحزاب المعارضة الأخرى، وحتى داخل حزب السلطة، بل تعداه وبكراهية عنصرية ضد التنوع القومي والديني والثقافي للمجتمع العراقي، هذا العنف الذي لا يمكن فصله عن طبيعة البعث ومنظومته الفكرية وأسباب وظروف تأسيسه التاريخية، والتي لا تحتاج إلى تطرف مقابل لتنشر القتل والإرهاب والجريمة في المجتمع.

وبودي أن اقتبس من مقالة بعنوان “ سلام عادل-عبد الكريم قاسم ثوابت ومتغيرات” للباحث الدكتور سيف عدنان القيسي: “ ففي رسالته التي أرسلها (أي سلام عادل) لقاسم في الثالث من شباط 1959 أهم ما جاء فيها “أسمحوا لنا أيها الأخ العزيز أن نضع أمامكم بعض الملاحظات حول الوضع السياسي في البلاد آملين أنكم ستأخذونها بما هي جديرة منا بالاهتمام”، مشيراً في رسالته “لقد كنا نؤكد دوماً على أن خصوم الثورة لن يلقوا سلاحهم بسهولة، فما السبيل لإحباط مساعي العدو؟ إن السبيل إلى ذلك يتألف في شقين: الأول: هو سد الثغرات في كيان الدولة. الثاني: هو المباشرة في تعزيز بناء الحكومة على أسس ديمقراطية”. الإشارة هنا تجري إلى وثيقة وليس استنتاج.

ويمكن الإشارة إلى محاولة الشهيد، حتى في أحلك الأوقات تجميع القوى الوطنية للدفاع عن الثورة، عبر دعوته قادة الأحزاب الوطنية صباح يوم الانقلاب للتشاور في مقر جريدة اتحاد الشعب، ولكن هؤلاء القادة لم يستجيبوا لدعوته مما فرض على الحزب مواجهة الانقلاب بالإمكانيات المتوفرة. وكذلك طلبه من الزعيم تسليح الجماهير للقضاء على الانقلابيين، الأمر الذي رفضه الزعيم. 

اما منجزات سلام عادل الحزبية والسياسية فهي الأخرى أدلة ملموسة تنفي عنه تهمة التطرف، لقد حقق سلام عادل وحدة الحزب الشيوعي العراقي وأعاد المجموعات المنشقة اليه، وهو حدث غير مسبوق، ولم يتكرر حتى الآن ليس فقط عبر تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، وفي الحياة الحزبية العراقية، بل وربما في التجربة السياسية للبلدان العربية ومنطقة الشرق الأوسط أيضا. والمعروف أن الشخصية الجامعة والمحاورة والقادرة على قراءة المستقبل لا يمكن أن تكون متطرفة، فالتطرف أيا كانت اسبابه، يتعارض مع القدرة على التجميع والاحتواء وتعبئة القوى والقدرات.

والقول نفسه يصح على نجاح الحزب بقيادة سلام عادل في بناء جبهة الاتحاد الوطني عام 1957، التي يحتفظ بها التاريخ السياسي، بكونها الجبهة السياسية الوحيدة التي حققت أكبر أهدافها، المتمثل بانتصار ثورة 14 تموز 1958 والتفاف الجماهير حولها، وكذلك حرص الشهيد على إعادة الروح إلى الجبهة، باعتبارها ضمانة قوية لمواجهة تحالف قوى الردة، فكيف يمكن لقائد من هذا الطراز ان يكون متطرفا.

وهنا ربما من المفيد الإشارة إلى الحوار الذي نقلته الراحلة ثمينة ناجي يوسف في كتابها “سيرة مناضل ج 2 “، الذي طالب فيه الشهيد سلام عادل بضرورة إحياء جبهة الاتحاد الوطني، عندها أجابه الزعيم الشهيد “لماذا يحتاج حزب المليون؟”، أي لماذا تحتاجون الجبهة وأنتم من حشد في مسيرة الأول من أيار مليون متظاهر؟ فكان رد الشهيد سلام عادل صادما للزعيم: “لا نريد هذه الحرية حتى وأن اقتصرت على حزبنا.. نريد حرية للجميع.. لجميع الاحزاب والقوى الوطنية المخلصة”، فهل شخصية تفكر على هذا المنوال يمكن أن تكون متطرفة؟ أعتقد ان سلام عادل كان سابقا لسياسيي عصره في العراق، ومتجاوزا حتى للفهم السائد للماركسية في حينه داخل الحركة الشيوعية، وأن رده أقرب إلى ما تطالب به قوى اليسار الماركسي اليوم من تعزيز الديمقراطية وتوسيع المشاركة، وإطلاق الحريات في ترابط قوي بين ما هو سياسي واجتماعي.

إن العقود المظلمة التي أعقبت انقلاب الثامن شباط 1963، أثبتت بما لا يقبل الشك، أن التفريط بالثورة، وعدم السير بمشروعها حتى نهايته، قد حرم قوى اليسار والتقدم والديمقراطية من خلق تراكم ضروري، كان يمكن لها أن تستند اليه، في حال انهيار تجربة الثورة في عقود لاحقة. وهذا ما أكدته تجربة اليسار في العديد من دول أوربا الشرقية بعد انهيار التجربة الاشتراكية فيها، فلا يمكن مثلا تجاهل التراكم الذي خلفته تجربة السلطة الاشتراكية في المانيا الشرقية، في بلورة مشروع حزب اليسار الألماني، والأمر نفسه ينطبق على الرصيد الذي يتمتع به الحزب الشيوعي الروسي، والذي لا ينفصل عن التراكم الذي منحته إياه ثورة أكتوبر، والأمر يقال عن تجربة الشيوعيين التشيك، رغم أزمتهم الأخيرة، وعلى الحزب الشيوعي الأوكراني قبل حظر نشاطه العلني، وتجارب اخرى.

واختتم سلام عادل سيرته النضالية باستشهاد بطولي، لا ينحصر بحدود البطولة الشخصية، بل يمثل درسا لجميع المناضلين بالتمسك بمشاريعهم الثورية بوضوح تام والدفاع عنها. إن هذ الصمود لا ينفصل عن استيعاب لطبيعة الصراع.  وإعطاء المثل للأجيال القادمة بكيفية مواجهة قوى الردة والظلام.

إن قوى التغيير الحقيقية في العراق مدعوة اليوم، لدراسة هذه السيرة النضالية التي استندت على ثقة عميقة بالناس بعيدا عن مؤسسات السلطة، وروح نضالية كانت عصية على الاحتواء، وذهنية منفتحة قادرة على المراجعة والتجديد وتجميع القوى، بعيدا عن كل ما يعيق السير قدما بمشروع التغيير الشامل إلى أمام.

عرض مقالات: