اخر الاخبار

ما المقصود بالتسامح؟ التسامح من المسامحة، تسامح الشخص في الأمر: تساهل فيه، تهاون فيه. والتسامح هو التساهل، وهو مصدر الفعل: تسامح. أما في الاصطلاح فهو الصفح والعفو والإحسان، والذي يقابله هو التعصب والتطرف. والتسامح أنواع، منه التسامح الديني.

لماذا شاع مفهوم أو مصطلح التسامح، ومتى كان ذلك؟ إن الظروف الاجتماعية والتركيبة السكانية لأي دولة أو كيان في العالم تتعدد فيها الأعراق، أي الانحدار من أصول قومية مختلفة، كما تتعدد أديانهم وطوائفهم، وتبعا لذلك شعائرهم، وينشأ عن ذلك سلوك ونمط ثقافي لكل فئة يختلف عما لدى الأخرى. وتختلف استجابتهم للمتغيرات، فيعتنقون تصورات وأفكارا متنوعة تبعا لانتماءاتهم الدينية والطائفية والإثنية والسياسية.

وفي مثل هذه المجتمعات لا يمكن لأي فئة دينية أو عرقية أو سياسية أن تميز نفسها عن الفئات الأخرى، وتجعل نفسها في موقع التسلط والتصرف في شؤون الحياة؛ وعليه لابد للبشر أن يعيشوا بإخاء وسلام، وأن يحترموا بعضهم بعضا ويقبل كل منهم الآخر المختلف عنه، ويتعايشوا سلميا. فالتسامح في جوهره قائم على القبول والانفتاح على الآخر، واحترام الاختلاف ونبذ العنف وعدم التعصب.

إن ما يقابل التسامح هو التعصب؛ أن يرى أحدهم أنه على الدين القويم أما الآخر فهو ليس كذلك، أو أن عرقه أفضل أو أنبل من عرق الآخر، أو أن أفكاره وتصوراته عن العالم هي الصحيحة، وأن أفكار وتصورات الآخر خاطئة أو لا قيمة لها. ويؤدي فرض وجهة النظر الأقوى والمتسلط سياسيا أو دينيا أو فكريا إلى الصراعات والعداوات والحروب. وقد شهد تاريخ الإنسانية صراعات وحروب ومذابح في بلدان عديدة وفي فترات مختلفة من التاريخ. وحتى عندما تهدأ الحرب وتصمت لغة السلاح، فإن عوامل البغضاء وكراهية الآخر تبقى تفعل فعلها في النفوس وتتراكم. ويبقى الحقد والعدوان كامنا في النفوس ينتظر لحظة الانفجار. ولهذا لا بديل عن التعصب إلا التسامح.

وإذن فإن شيوع مصطلح التسامح وظهور ممارساته راجع إلى ظروف الواقع الاجتماعي، أنتجته المتغيرات الاجتماعية، ولبى حاجة البشر إليه، كي تستمر الحياة ويعم السلام والإخاء والمحبة. وقد استند ظهوره إلى العقل والدين والمنظومة الأخلاقية، وككل مفهوم أو مصطلح خاضع لتقلبات الأحوال، تتغير دلالاته بتغير الأزمان والظروف الاجتماعية. وبمرور الوقت يكتسب دلالات لم تكن موجودة فيه حين ظهور أولى ممارساته.

التسامح في أوربا

هناك إشارات متفرقة إلى ممارسات التسامح في أزمان بعيدة، في العهد الروماني وعهود أخرى في مختلف الممالك والبلدان وعلى امتداد التاريخ الإنساني وما شهده من صراعات. ونود التوقف عند التسامح في أوربا، في فترة محددة، فقد شهد القرنان 16 و17 الميلادي شيوع التسامح وتحوله إلى مفهوم أو مصطلح في فترة الإصلاح الديني في أوربا. وهكذا نشأ المصطلح بعد معاناة الناس من حروب الأديان، وإعدام البعض بتهم الهرطقة أو الزندقة والسحر. فالسلطة أو الجماعة التي تحتكر الحقيقة المطلقة والقوة تمارس العنف ضد الطرف الآخر باتهامه بالمروق عما تعتبره صحيح الدين أو الحقائق أو الثوابت.

وفي الفترة المشار إليها ظهر مفكرون دعوا إلى التسامح، كما أن هناك كتابا دافعوا عن التعصب. وقد رد على هؤلاء المتعصبين دعاة التسامح وفندوا أقوالهم. وبدأت الدعوة إلى التسامح الديني الصريح على يد المصلح مارتن لوثر 1483-1546، ودعوته كانت موجهة ضد البابا والكنيسة الكاثوليكية. يقول لوثر “ينبغي التغلب على الملحدين بواسطة الكتابة، لا بواسطة النار” وأكد لوثر حرية الاعتقاد وطالب بإلغاء محاكم التفتيش ووقف كل إجراء ضد الهراطقة والملحدين. (1)

نموذجان للموقف من التسامح في أوربا

ونود أن نتناول مفكرين كتبا عن التسامح. المثال الأول من انكلترا، وهو جون لوك 1632- 1704 وكتابه “رسالة في التسامح” وقد تم طبع هذه الرسالة في مدينة خاودة في هولندا 1689 باللغة اللاتينية دون ذكر اسم المؤلف ثم ترجمت إلى الإنجليزية.

ونود الإشارة إلى أن موقف لوك من التسامح خضع إلى التغير ودلل على تطور فكره. فقد كان موقفه ضد التسامح، حيث كتب في 1661-1662 رسالتين عن التسامح، يرى فيهما أن التسامح هو مجرد اسم آخر للعصيان المدني. ولم يستمر هذا الموقف طويلا، فقد كتب بحثا في التسامح 1667 حيث بدأ يميل إلى التسامح، وصولا إلى تأليف “رسالة في التسامح” التي مر ذكرها. (2)

وللتعريف بالأوضاع الدينية في العصر الذي عاش فيه جون لوك، فقد وقع نزاع خطير مع بابا روما سببه رغبة الملك هنري الثامن 1509-1547 في تطليق زوجته لأنها لم تنجب له ابنا ذكرا، والزواج بواحدة أخرى. رفضت الكنيسة طلب الملك، مما أدى إلى إعلان استقلال انجلترا دينيا عن بابا روما، وقد تعاقب عدة ملوك على الحكم في انكلترا، وبحكم انتمائهم أو تشجيعهم لشيوع هذا المذهب أو ذاك (كاثوليكي أو بروتستانتي) قاموا باضطهاد المذهب المخالف لمذهبهم. (3)

وأهم ما تضمنته أفكار رسالة جون لوك في التسامح ما يلي: 1 - لابد من التمييز الدقيق بين مهمة الحكومة المدنية وبين مهمة السلطة الدينية،

2 - لكل إنسان السلطة المطلقة في الحكم لنفسه في أمور الدين،

3 - حرية الضمير حق طبيعي لكل إنسان،

4 - التجاء رجال الدين إلى السلطة المدنية في أمور الدين يكشف عن أطماعهم هم في السيطرة الدنيوية.

ويستثني لوك من التسامح تلك الفرق أو المذاهب الدينية التي تدين بالولاء لأمير أجنبي. ولما كان الكاثوليك في انجلترا يدينون بالولاء للبابا ولملك فرنسا، فإن لوك يرفض التسامح مع الكاثوليك لأسباب سياسية وليست دينية. وفي رأيه ينبغي على الحاكم ألا يتسامح مع الملحدين. ونلاحظ أن التسامح الذي يدعو إليه لوك تسامح قاصر؛ لأنه يستثني من التسامح طائفتين: الكاثوليك والملحدين. (4)

المثال الثاني هو الفيلسوف الفرنسي فولتير، وهو واحد من أهم فلاسفة عصر التنوير. دافع عن الحقوق المدنية وحرية العقيدة، وهو القائل: لا أوافق على رأيك، لكنني مستعد للموت من أجل حقك بالتعبير عنه. وقد وقف ضد التعصب، وألّف في هذا المجال كتابه “رسالة في التسامح” ونشره 1763. فولتير وهو الكاثوليكي الذي ينتمي إلى الأغلبية، يدافع في كتابه عن أسرة بروتستانتية. فقد تم إعدام “جان كالاس” ظلما، على الدولاب حتى الموت، لأنه اتهم بقتل ابنه “مارك انطون” لأسباب دينية. وفي الحقيقة أن الابن انتحر لأسباب نفسية تتعلق بفشله في التجارة وعجزه وخسارته في لعب القمار. الناس اتهموا الأب البروتستانتي بقتل ابنه بسبب تحوله إلى الكاثوليكية. وأقاموا جنازة مهيبة للابن المنتحر، وبحسب رأيهم فهو شهيد. واعتبروه قديسا وراح بعضهم يتضرع إليه. بعد أن أعدم كالاس، سجن ابنه ثم نفي، وبناته حجر عليهن داخل أحد الأديرة. انتقد فولتير التعصب الديني ويشير عند سرده للحادث إلى كيفية تحويل الدين إلى وسيلة لممارسة السلطة المطلقة. وكان لدفاعه هذا عن الأسرة المظلومة تأثير فكري واجتماعي كبير. وقد رأى أن إعدام رب أسرة بريء جريمة، وضحية للانفعال الأهوج أو التعصب. (5)

التسامح في بلادنا

إن تركيبة سكان العراق متنوعة دينيا وطائفيا وقوميا وفكريا ثقافيا وسياسيا. وطوال عهود مختلفة ولمدة زادت على قرن من الزمان، منذ احتلال البلاد من قبل الاستعمار البريطاني في 1917 خضع الشعب لحكومات متعاقبة مختلفة، لم تشهد البلاد فيها ممارسة ديمقراطية سليمة عدا بعض فترات عابرة قصيرة. وقبل عقدين من الزمان تصاعدت حدة الأزمة العامة الشاملة في البلاد المتمثلة بنظام دكتاتوري تسلطي قمعي، وشعب مقهور يعاني الجور والحرمان وغياب الحريات، فتدخلت أمريكا، وجاء الاحتلال الانجلو الأمريكي ليحسم مصير النظام الدكتاتوري لصالح تصوراته عن مستقبل البلاد والمنطقة. وصاحب سقوط النظام وعود جذابة، أطلقها المحتل ومريدوه بإسناد السلطة للشعب عبر ممارسة وصفت بالديمقراطية، أطلق عليها اسم “العملية السياسية”. ومورست الديمقراطية بشكل مشوه، بعيدا عن قيمها وممارساتها، اقتصرت على صناديق الانتخاب حصرا لتفرز حكومة قائمة على المحاصصة الطائفية والإثنية تتوزع على ثلاث مكونات.

وفي خضم الصراع على السلطة والنفوذ والمال لجأت الأحزاب المتنافسة إلى أساليب التحريض وتصفية المعارضين وتغييبهم والتجييش الديني والطائفي والقومي والعشائري والمناطقي. وتم توظيف الدين لأغراض سياسية وإلباس الحاضر لباس الماضي لاستثارة كراهية الآخر المختلف واستدعاء التاريخ كوقائع الماضي وكأنها تحصل الآن لشحن مشاعر الناس ودفعهم إلى التعصب. وهكذا ادعت الأحزاب الدينية الإسلامية مثلا بشقيها السني والشيعي أنها تمثل الطائفة المعنية، أو بالأحرى ادعى كل حزب أنه هو من يمثل الطائفة المعنية لا غيره من الأحزاب المماثلة له والقائمة على أساس طائفي.

كما تصاعدت حدة الاعتزاز القومي والتعالي والتفاخر ونبذ الآخر عند أكثر من قومية، وتصاعدت أيضا النزعة المناطقية والعشائرية. وأدى كل ذلك على المستوى المجتمعي إلى اختلال القيم واهتزاز المنظومة الأخلاقية والعودة إلى ممارسات وأعراف بالية تجاوزها المجتمع منذ عقود.

فالتعصب والكراهية وعدم قبول الآخر في بلادنا مرده إلى الأوضاع الاجتماعية المعقدة والمتشابكة داخليا مع وجود التأثير الخارجي. والدافع لذلك السعي إلى السلطة والمال، لا الدفاع عن هذه القومية أو تلك، عن هذا المذهب أو ذاك أو الخطر المزعوم الذي يتهدده. وقد اتخذ التعصب للدين والطائفة والقومية والعشيرة مديات واسعة. وتضاءلت قيم التسامح وغابت في أحيان كثيرة. وأصبح السلاح منتشرا واستخدامه للترويع والقتل على الهوية أمرا شائعا. يمكن القول إن تضاؤل أو اختفاء قيمة التسامح وشيوع التعصب له جذور في حياة البلاد فلم يظهر فجأة، ولم يكن بهذه الحدة والعدوانية وهذا الاتساع، والذي جعله واسعا ومنتشرا هو الظروف الاجتماعية المعقدة التي مرت بها بلادنا.

من التسامح إلى المساواة

إن التسامح رغم أن له قيمة إيجابية كبيرة في مجرى التطور الإنساني، فإنه لا يصح النظر إلى المتسامحين (بفتح الميم) على أنهم أقل أهمية أو شأنا أو أقل انحرافا أو أنهم على خطأ. وقد يحمل معنى التسامح نظرة من الفوق إلى الأدنى، وقد يسامح المعني الآخر ولكن لا يقبله كما هو؛ ولهذا ليس مطلوبا التسامح بل المساواة؛ أي أن الجميع يتساوون أمام القانون مهما اختلفت دياناتهم وطوائفهم وقومياتهم وأفكارهم. والبديل لهذا المفهوم هو المواطنة والحريات الأساسية وحقوق الإنسان، والتي تعني المساواة في الحقوق والواجبات لعموم المواطنين مهما اختلفت أديانهم وطوائفهم وقومياتهم وأفكارهم. فللجميع وعلى قدم المساواة الحق في تكافؤ الفرص والعمل والصحة والنقل وكل الحقوق الأساسية، وحد أدنى أو قبول من منظومة العدالة الاجتماعية.

والدولة القائمة على قيم المواطنة وحقوق الإنسان هو ما تدعو إليه الأحزاب المدنية الديمقراطية بديلا لحكومات المحاصصة والفساد. وهو المشروع الواعد لمستقبل البلاد، ويتطلب إنجازه عملا هائلا وتضحيات كبيرة. ولا مستقبل لهذا المشروع إلا بتكاتف ووحدة القوى التي لها مصلحة في قيام نظام مدني ديمقراطي ينعم أهله بالسلام والخير والازدهار.

ــــــــــــــــــ

المصادر

1 - جون لوك، رسالة في التسامح، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ط1 مكتبة الشروق الدولية 2011 م، ص11-12.

2 - المصدر السابق ص32-37.

3 - المصدر السابق ص15-16.

4 - المصدر السابق ص43-44.

5 - فولتير، رسالة في التسامح، ترجمة هنرييت عبودي، ط1 2009، دار بترا للنشر والتوزيع، دمشق ص9-19

 

عرض مقالات: