اخر الاخبار

شهد العالم في بداية القرن العشرين، تغييرات مهمة وجذرية إذ اشتدت نزعات قوى الرأسمالية ودولها للتوسع واحتدمت صراعاتها لتقاسم المستعمرات، وبدأت بإعادة تشكيل خارطة جديدة للعالم وبضمنها منطقتنا، وبعد انهيار دولة الخلافة العثمانية المتهالكة تم تقسيم بقاع ولاياتها إلى مناطق نفوذ بين الدول الاستعمارية المنتصرة في الحرب الكونية الاولى، بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصيرية. ولكن انتصار ثورة اوكتوبر الاشتراكية وانهيار القيصرية الروسية البغيضة أدى إلى تحييد وانسحاب روسيا من معسكر الاستعمار العالمي وقامت بريطانيا وفرنسا بالانفراد والهيمنة على المنطقة، ووقع العراق تحت النفوذ البريطاني. ولكن الشعب العراقي نظم نفسه وانتفض رافضا قيود الاستعمار وجسد ذلك في عدة انتفاضات كانت قمتها ثورة العشرين الخالدة.

وحينها تشكل المشهد السياسي العراقي ليعكس الاتجاهات الاربعة:

1- جمعية العهد ذات التوجه القومي العربي، مؤسسوها الضباط الذين تحالفوا مع البريطانيين وساهموا في تفجير الثورة العربية ضد الأتراك في الحجاز وكانت ذات طابع قومي واسع الأهداف ومقرها الرئيسي في دمشق.

2- مجموعة السيد هادي النقيب والمرجع السيد كاظم الطباطبائي اليزدي وهم قلة وكانوا يدعون للخضوع للأمر الواقع وتجنب الصدام مع بريطانيا.

3- جمعية النهضة الاسلامية أو الحزب النجفي، بمباركة السيد المرجع الشيرازي. والتي بلور أهدافها الشيخ رضا الشبيبي حين قال مؤيدا الشيخ عبد الواحد سكر: “إن العراقيين يَرَون من حقهم أن تتألف حكومة وطنية مستقلة اسقلالاً تاماً، وليس فينا من يفكر في اختيار حاكم أجنبي”.

4- جمعية حرس الاستقلال، الوطنية وكانت تركز على الهم الوطني العراقي والتحرر من الاستعمار وبناء عراق مزدهر ومستقل وكان مؤسسوها من الاكراد والعرب السنة والشيعة، مثل جلال بابان، يوسف السويدي، محمد الصدر وجعفر ابو التمن.

وجاء انتصار ثورة اوكتوبر في روسيا واعلان رسالة لينين إلى شعوب الشرق وكشف ونشر قادتها للمعاهدات السرية المعقودة بين الحلفاء من الدول الاستعمارية، ومنها معاهدة سايكس - بيكو، بين الإنكليز والفرنسيين لاستعمار البلدان والنقمة الصارخة على الإنكليز بعد اعلان وعد بلفور، ليسهم في تطور الوعي الوطني لفئات الشعب العراقي والتي بدأت ببلورة تنظيم قواها السياسية المعبرة عن مصالحها الوطنية.

وهنا تعرف العراقيون على مفاهيم جديدة تنسجم وطموحهم للاستقلال والكرامة الوطنية بعد نشر المفاهيم اللينينية للاستقلال والسيادة الوطنية ومنها حقوق الأمم في تقرير مصيرها. وقام لينين بتوجيه رسالة إلى المسلمين في 24 نوفمبر 1917 جاء فيها: “يا ايها المسلمون في روسيا وسيبيريا وتركستان والقوقاز.. يا أيها الذين هدم القياصرة مساجدهم وعبث الطغاة بمعتقداتهم وعاداتهم، إن معتقداتكم وعاداتكم ومؤسساتكم القومية والثقافية أصبحت الآن حرة مقدسة، نظموا حياتكم القومية بكامل الحرية، وبدون قيد فهي حق لكم، واعلموا أن الثورة العظيمة وسوفييتات النواب والعمال والجنود والفلاحين تحمي حقوقكم وحقوق جميع شعوب روسيا..”

وتصدت شخصيات وطنية متأثرة بتوجهات جمعية النهضة الاسلامية وجمعية حرس الاستقلال المار ذكرهما واللتان كان لهما دور الدافع والمحرك لثورة العشرين الكبرى ضد الاحتلال البريطاني وطورت وأغنت معارفها ومفاهيمها بالانفتاح على واكتساب الفكر اللينيني والماركسي التحرري، وكان من أبرز هذه الشخصيات شهداء العراق الخالدون حسين محمد الشبيبي (صارم) ويوسف سلمان يوسف (فهد) وزكي محمد بسيم (حازم).

فقد عاش الشهيد يوسف سلمان يوسف (فهد) أحداث ثورة العشرين وتأثر بها وبأهدافها وبالقوى التي كانت توجهها. وعمل في صفوف الحزب الوطني العراقي بزعامة جعفر ابو التمن بعد تأسيسه عام 1922، وقاد في عام 1924 ومعه آخرون، الاضراب العمالي الذي نظم في ميناء البصرة لتحقيق مجموعة مطالب عمالية في مقدمتها إنصاف العمال بزيادة أجورهم وتقليل ساعات العمل وتحسين ظروفه.

ودفعت الجذور الاجتماعية والتربيه العائلية كلا الشهيدين زكي محمد بسيم وحسين الشبيبي للعمل الوطني والتصدي لقيادة الحزب الشيوعي العراقي، فقد تأثر حسين الشبيبي بالمواقف الوطنية لرجال عائلة آل الشبيبي كالشيخ الكبير جواد الشبيبي والعلامة الجليل محمد رضا الشبيبي وشاعر ثورة العشرين محمد باقر الشبيبي.

ولم تستطع مجازر الاعدامات الوحشية التي قام بها نظام العمالة البريطاني وقف تطور كفاح الحزب الشيوعي حتى أصبح الحزب قائدا وفي صدارة نضالات الشعب العراقي الوطنية وتغلغلت جذوره في أرض العراق وشعبه، وربط الحزب النضال المطلبي والطبقي بالنضال الوطني التحرري. وصاغ يوسف سلمان يوسف (فهد) فلسفة الحزب بمقولته الشهيرة:” قووا تنظيمكم.. قووا تنظيم الحركة الوطنية الديمقراطية!” وعمل الحزب على حماية ثقافات جميع مكونات الشعب العراقي وتطويرها كجزء من مهام نضاله.

وعمل الحزب بفعالية لتوحيد جهود القوى الوطنية وبناء تحالفاتها وتتوج ذلك بانتصارات عديدة من أهمها ثورة 14 تموز الوطنية الخالدة التي جاءت ثمرة لنضال الشعب العراقي التحرري ولدور الحزب الشيوعي العراقي فيه.

ولكن مؤامرات أعداء العراق من قوى الاستعمار وحلفيتها الرجعية الداخلية من ناحية، ومؤمرات قوى البرجوازية الصغيرة المتنكرة بغطاء الشعارات القومية والدينية من ناحية أخرى، تمكنت من إجهاض هذه الثورة ونفذت مجازر دموية كان ضحيتها مئات الآلاف من الوطنيين والشيوعيين، ورغم كل ذلك لم تتمكن قوى الاستعمار وصنائعها من الغاء وانهاء دور الحزب في النضال الوطني العراقي، ونهض الحزب من جديد وبرز مرة ثانية كقوة وطنية أساسية وفاعلة.

وتسارعت التقلبات في العالم وفي المنطقة واخذت سلطة الطبقة الحاكمة في العراق تزداد ديكتاتورية ودموية تجاه الشعب وقواه الوطنية وزج الديكتاتور البلاد في مغامرات وحروب قاتلة معرضا سيادة الوطن واستقلاله للخطر. وكان هذا النظام ضمن الانظمة التي يذكرها عبد الجليل النعيمي من البحرين: “تتسم بطبيعة مزدوجة: كونها انظمة وطنية معادية للامبريالية في سياستها الخارجية ...من جهة، ومن جهة اخرى هي معادية لتطلعات شعوبها في الحرية والديموقراطية والتقدم الاجتماعي.”

وحتما فأن قوى الاستعمار والامبريالية غير معنية بسياسة الانظمة تجاه شعوبها، ولكنها معنية بتغيير سياسة الانظمة المعادية للامبريالية وبتحويل موازين القوى لصالحها وحتى بالقوة ان تطلب الامر ذلك. وهذا مافعلته مع نظام الديكتاتور في العراق.

 ولعب الحزب الشيوعي العراقي دورا اساسيا في الكفاح ضد الديكتاتورية وفضح سياساتها التي كبدت الشعب العراقي كل انواع الويلات، وسلك الحزب كل اساليب النضال وحتى الكفاح المسلح في مقارعة الديكتاتورية، ولكنه وقف بوضوح ضد احتلال وغزو العراق وتعريض سيادته للخطر وعبر عن موقفه هذا وبعمق بشعار “لا للحرب ... لا للدكتاتورية “. وكان الحزب يؤمن ولايزال أن الطريق السليم لبناء العراق الديمقراطي الفدرالي الموحد بعد إسقاط الدكتاتورية يأتي عبر وحدة القوى الوطنية في تحالف واسع ووفق برنامج واضح يعبئ قوى الشعب، ويحظى بدعم دولي مشروع وحسب الأعراف الدولية ووفقا لميثاق الأمم المتحدة. 

ولكن وللأسف أفرز الوضع بعد احتلال العراق واسقاط الديكتاتور نظاما هشا يستند على الطوائف والمحاصصة وتعاني قوى الشعب الوطنية تحته من التضييق ومن تغلغل الفساد في أرجاء الدولة إضافة للتحديات الناتجة من تغييرات المناخ وإعادة هيكلة اقتصاد الدولة السابقة.

واليوم يواصل الحزب كفاحه مع قوى الشعب الأخرى بهدف تحقيق مصالح ومطالب الشعب العراقي الوطنية ويقف مسلحا بخبرته التاريخية مستندا إلى جذوره الوطنية الأصيلة بوجه مخططات قوى الفساد والمحاصصة الطائفية التي أوقعت البلاد في كوارث يعاني منها العراقيون، ويعمل لإحلال بديل وطني ديموقراطي ولبناء وتأسيس اقتصاد وطني مستدام يواجه تحديات العصر الراهن وتحت ظلال تحديات تغييرات المناخ ليؤمن الرفاه والازدهار والأمن وفرص العمل لفئات الشعب العراقي وبشكل خاص الفئات الكادحة والشغيلة. ويعمل على تجنيب البلاد مخاطر الصدامات المحتدة بين القوى الامبريالية العالمية والقوى المتصارعة في المنطقة.  ويدرك الحزب استنادا إلى خبرته النضالية الطويلة أن التغيير والاصلاح الجذري المنشود هو معركة مصيرية حاسمة وكبيرة وطويلة الأمد تستلزم شروطاَ ذاتية وموضوعية ونضالا شعبيا واسعا فاعلا ومستمرا مبنيا على أساس التنسيق والعمل الجماعي الوطني الموحد بمشاركة جميع القوى الوطنية العراقية الخيرة، وجماهيرها المكافحة المؤثرة. ويدفع الحزب قوى التغيير إلى زيادة زخم حراكها الاحتجاجي والمطلبي، ويطالب الحكومة بالعمل العاجل لحماية البيئة الطبيعية والحصول على حصة عادلة من مياه دجلة والفرات، ومكافحة الفقر والامراض والجهل والامية والبطالة، وتوفير متطلبات العيش الكريم للمواطن العراقي. وعلى هذا الاساس يطلق الحزب الشيوعي العراقي نداءاته الملحة إلى جميع القوى والاحزاب والشخصيات المدنية والديمقراطية، وإلى قوى انتفاضة الشعب المجيدة، داعياً إياها إلى التشاور والحوار ولملمة الصفوف، لتشكيل كتلة وطنية تتجاوز العناوين الفرعية والثانوية والطائفية والمناطقية، تقوم بحمل المشروع الوطني الديمقراطي الهادف إلى اقامة دولة المواطنة والعدالة الأجتماعية، دولة المؤسسات، دولة حقوق الانسان، الدولة التي تسيطرعلى السلاح المنفلت وتحصره بيدها، الدولة التي تخطط على نحو سليم من أجل تنمية البلد وتقدمه ورفاه المواطنين وسعادتهم وانتشالهم من الجوع والفقر والمرض وسوء الخدمات. وهو مؤهل لذلك فهو ابن هذا الشعب ورائد نضاله منذ تأسيس الدولة الوطنية العراقية ولحد اليوم.

 عاشت ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي العراقي وعاش كفاحه من أجل تحقيق الوطن الحر والشعب السعيد.

عرض مقالات: