اخر الاخبار

رغم أن تلك الولادة من حيث التدوين كانت في الحادي والثلاثين من مارس عام 1934، الا أن وجود الحزب كان كامنا في ثنايا خلاياه العاملة في الوسط والجنوب ومناطق عراقية أخرى والتي كانت تؤثر في الأحداث من حيث الشكل والمضمون والتي أخذت تتجاذب مع بعضها البعض بفعل جاذبية الأفكار التي كانت تتقدم حركة المجتمع العراقي بخطوات جريئة لتعلن عن معاداتها للاستعمار البريطاني واحتلاله البلاد عام 1917، أو منذ ولادة جماعة حسين الرحال الماركسية وجريدة الصحيفة التي قال عنها حنا بطاطو أنها كانت بخلاف الصحف العراقية الأخرى لم تسع إلى كسب الرزق بل إلى تغيير الناس، وكان لدعوة نادي التضامن لتشجيع الصناعة الوطنية أن قام مكتب الخدمة البريطانية الخاصة ( الاستخبارات  العسكرية ) باتهام النادي بالدعوة إلى الاشتراكية.

لقد توسعت هذه الأنشطة المتأثرة بالأفكار اليسارية على إثر قيام ثورة اكتوبر الاشتراكية عام 1917 في روسيا خاصة في عقد العشرينات لتتطور إلى تنظيمات هيكلية سياسية غيرت من أحوال العراق السياسية والاجتماعية بعد خروجه من الفترة العثمانية المظلمة، ففي العام 1927 تم تشكيل أول خلية شيوعية في البصرة، وفي العام 1928 تأسست خلية الناصرية وفي مقدمة شبابها يوسف سلمان يوسف ( الزعيم الخالد فهد) الذي كتب بخط يده منشورا تحت عنوان  يا عمال وفلاحي البلاد العربية أتحدوا، وهكذا تلقفت البيئة الفلاحية المضطهدة بفعل الإقطاع المهيمن منذ السلطنة العثمانية، وباكورة الطبقة العاملة العراقية،  نعم تلقفت كل تلك الفئات  أفكار الحزب ومبادئه قبل الولادة التي جاءت عام 1934 في مؤتمر عام حضره شيوعيو كل أنحاء العراق، ولشدة مقت الشعب العراقي للاستعمار البريطاني فقد انبثقت عنه لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار، وهي تؤشر إلى قيادة وولادة الحزب الرسمية والذي تمت الاستعاضة عنها باسم الحزب الشيوعي العراقي عام 1935 الذي لا زال يستحق هذا الاسم لأنه شكل تنظيما سياسيا عقائديا له برنامج سياسي معلن وهدف اقتصادي واضح تبنى فيه الاشتراكية العلمية التي ناضل من أجل تحقيقها لتكون بمثابة التطبيق العملي والإداري لمفهوم ما يطلق عليه اليوم بالعدالة الاجتماعية.

إن مسيرة هذا الحزب تجلت في التعبير المركز عن آمال وطموحات شعب ابتلى بدولة إقطاعية منذ التأسيس عام 1921 ليكون فيها الملك وحكومات جنرالات الإستانة متقاسمين الثروة والسلطة والجاه مع الإقطاع، وتم تقنين سلطة الإقطاع بالإرادة الملكية التي خصصت بالتعيين ربع عضوية مجلس الأعيان  لشيوخ العشائر من الاقطاعيين والذي أصدر لصالحهم الحاكم العسكري البريطاني قانون دعاوى العشائر عام 1918، وتم الاعتراف بهيمة المشايخ على مجمل الأراضي الزراعية الأميرية بقانون التسجيل العقاري الصادر عام 1932 الذي مكن الاقطاعيين من الهيمنة على 80 بالمئة من الأراضي الزراعية ليلة الرابع عشر من تموز عام 1958، وقد قارع الحزب الشيوعي الظلم طيلة العهد الملكي مؤسسا وقائدا لنقابات العمال واضراباتها ضد تعسف الرأسمالية المحلية والشركات النفطية الأجنبية، وقد دفع ثمنا باهضا لقاء هذا التحدي بعد أن سيق بقادته إلى السجون وساحات الإعدام عام 1949، وقد قادت خلاياه قبل الولادة الشارع بكفاءة عالية ضد معاهدة عام 1930، وضد معاهدة بورتسموث عام 1948 في وثبة كانون ، وقاد مظاهرات تشرين عام 1952 ومظاهرات الشعب العراقي ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وكان وراء تشكيل الجبهة الوطنية. وله الفضل في قيام ثورة 14 تموز عام 1958 دافعا قيادتها لإقامة المشاريع الكبرى كمشروع مدينة الطب أو مشروع قناة الجيش. أو مشروع تغيير السكك الحديدية، أو بناء المصانع الكبرى، وله الفضل في اصدار القوانين التي لا زالت آثارها باقية لغاية تاريخه منها قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 وفيما بعد قانون رقم 80 لسنة 1961 الذي حدد لشركات النفط الأجنبية ولأول مرة مناطق الاستكشاف والاستخراج، أو قانون الإصلاح الزراعي الذي فتح باب المواجهة بين الحزب ومشايخ الإقطاع بعد أن أقام الجمعيات الفلاحية الانتاجية الاستهلاكية،  وكان الحزب يختلف كثيرا مع نزعة دولة العسكر التي تقودها البرجوازية العسكرية ووعودها الديماغوغية كما وصفها الدكتور على مهدي في كتابه الوثائق التقييمية لمسيرة الحزب الشيوعي العراقي النضالية (ص31:) في قرب انتهاء الفترة الاستثنائية،  وكان لتلك النزعة العسكرية الأثر المباشر في انقلاب الثامن من شباط عام 1963 لتبدأ مسيرة نضالية جديدة للحزب بدايتها الصراع الدموي مع الانقلابيين ونهايتها وقوع العراق بيد دولة المنظمة السرية عام 1968، لتتجلى مسيرة الحزب في مقاومة التسلط الفردي وشيوع ديكتاتورية تلك المنظمة التي اتخذت من أجهزة الدولة وسائل لتحقيق مأربها ودفعت بالشقاوات إلى سدة الحكم مانحة الجاهل منهم رتبة جنرال  وللحزبي سلطة قاضي القضاة، وتم اختزال الدولة وحزب البعث بشخص القائد المختال، وامتد الصراع مع صدام حتى نهاية الحروب ونهاية العراق عام 2003، ليبدأ الحزب تأملا فاحصا لدولة العراق العميقة التي ضربت جذورها في أجهزة الدولة لتضعفها وتبني دولتها وعسكرها خارج تلك الدولة سالكة طريقا مغايرا لدولة المنظمة السرية ( زمن النظام السابق) التي قوت الدولة ووقفت خلفها تضرب الشعب العراقي وقواه التقدمية،  وفي المقدمة الحزب الشيوعي العراقي.

أن ما يحدث في العراق اليوم هو حقا خارج المألوف وان الحزب يعمل بجد مع قوى الشعب الديمقراطية والتقدمية على تشكيل نواة الدولة المدنية بعد أن مر العراق بأربعة أنماط للحكم،   حكم دولة العشيرة للعام 1921--1958، ودولة العسكر 1958--1968، ودولة المنظمة السرية للعام 1968—2003، والدولة العميقة أو الموازية من العام 2003 لغاية هذه اللحظة التي خرج فيها الشعب عن صمته بعد ثورة تشرين 2019  وهو يطالب بالدولة المدنية، والتي يراها الحزب الشيوعي العراقي أنها دولة الجميع التي تختفي فيها الهوية الثانوية وفقا لعقيدته القائمة على وحدة الطبقات الكادحة وآمالها في دولة العدالة الاجتماعية القائمة على أساس المساواة أمام القانون وتوزيع الثروات توزيعا عادلا وإحالة الوظيفة العامة لمن هو الاكفأ والأصلح والأنزه بغض النظر عن دينه و قوميته ومذهبه،  ميزان المكانة حب الوطن والعمل على إعادة بناء معالمه التي آلت إلى الأفول على يد الجهالة والأمية السياسية .

إن وقوف أي باحث أمام مسيرة الحزب الشيوعي العراقي طيلة هذه الأعوام يلاحظ كالآخرين أن هذا الحزب على عكس الأحزاب السياسية الأخرى العاملة في الساحة ينال التأييد العفوي والتلقائي لمواقفه القريبة من آمال الفقراء والمعوزين  او لصحة طروحاته بشأن القضايا الوطنية والعربية في كل برامجه التي يتقدم بها إلى مؤتمراته العامة وخاصة قضايا الاقتصاد والتنمية المستدامة، كما وأنه ينال الاحترام الشعبي العام لنزاهة يده أو نزاهة كوادره التي كانت ولا زالت تتصدى للوظيفة العامة فهو بالتالي ملأ الساحة بالعمل السياسي الدؤوب طيلة هذه العقود، وهو لا يزال موضع حديث أهل النزاهة في هذا الوقت العصيب.