اخر الاخبار

يحضر أدب الآخرين في أعمال ماركس، لاسيما في «رأس المال»، إلى جانب ما يحضر فيها من الأنثروبولوجيا والاقتصاد السياسي والتاريخ وسوى ذلك من الفروع المعرفية والإبداعية الواسعة التي أحاط بها واعتاد أن يحشدها في كتاباته بأسلوب اصطفائي كلّي المعرفة. ويبدو وصف ماركس لديمقريطس في أطروحته للدكتوراه، «الفارق بين فلسفة ديمقريطس وفلسفة أبيقور»، أشبه بصورة له هو ذاته: «يصفه شيشرون بأنه متبحّر تماماً. فهو كفوء في الفيزياء والأخلاق والرياضيات وفي الفروع الموسوعية وفي كل فن».

مطالع أدبية

ليس ثمة جديد في المعلومات التي تشتمل عليها هذه المقالة، فهي متاحة - ولو بصورة مبعثرة - في معظم السير الكثيرة التي كتبت عن ماركس، ومتاحة أكثر في الأعمال التي تناولت علاقته بالأدب والنظرية الأدبية. ولعل الجديد يكمن في جمعها معاً واستكشافها على ذلك النحو الذي يتيح اقتراح الأدب - كما هو واضح في العنوان - مدخلاً أساسياً لا بد منه بين المداخل المتعددة لتلقي ماركس وفهمه، شأنه شأن المدخل الفلسفي والاقتصادي والاجتماعي والتاريخي والثقافي وسواه مما يندرج ضمن الفهم المادي للتاريخ الذي يعد جديد ماركس ومنجزه بين المفكرين والمنظرين.

حفل مطلع حياة ماركس بالكثير مما كان يهيئه لحياة أدبية تتذكر ابنته إليانور سماعها من عماتها «إنه كان في طفولته طاغية مرعبا حيال أخواته، «يسوقهن» على أنهن جياد نزولاً من ماركوسبيرغ في ترير بأقصى سرعة، والأسوأ أنه كان يجبرهن على أكل «الفطائر» التي صنعها من عجين متسخ بيديه الأشد اتساخاً. لكنهن كن يتحملن «سوقهن» وأكل «الفطائر» من دون أن ينبسن ببنت شفة، كرمى للحكايات التي كان يحكيها لهن لقاء صنيعهن الحسن»(1). وكان أترابه يخشونه للسهولة التي كان يؤلف بها الهجاء والأشعار الهجائية. كما كان يعرف، وهو طالب، أوفيد وشيشرون وتاسيتوس، فضلاً عن هوميروس وسوفوكليس وأفلاطون وثوكيديدس. ويبدو أنّ أستاذاً موهوباً، هو فيتوس لويرس، كان قد نشر شروحاً لأوفيد، أفلح في أن يثير لديه حماسة تجاه ذلك الشاعر أعقبتها محاولات لترجمة الـ Libri tristium  (كتاب الأحزان) إلى الألمانية شعراً. أما والده فقد نمّى لديه تذوق الكلاسيكيّات الألمانية التي عرفها القرن الثامن عشر، لا سيما شيللر، في حين دفعه جارهم في ترير وعمه اللاحق أبو زوجته، لودفيغ فون ويستفالن، إلى مشاطرته إعجابه بشكسبير وهوميروس. قالت إليانور لفلهم ليبكنخت: «كان لا يفتأ يحدثنا عن البارون المسن فون ويستفالن ومعرفته العجيبة بشكسبير وهوميروس. كان بمقدوره تلاوة أغان كاملة من هوميروس من ألفها إلى يائها، وكان يحفظ عن ظهر قلب معظم مسرحيات شكسبير، بالإنكليزية والألمانية على السواء». وأضافت إليانور: «كان والد ماركس، من جهة أخرى... فرنسياً حقيقياً» من القرن الثامن عشر، وكان يحفظ عن ظهر قلب فولتير وروسو كما كان العجوز فون ويستفالن يحفظ هوميروس وشكسبير(2).

يكاد أن يكون مؤكداً أنّ مطامح ماركس الباكرة كانت مطامح أدبية. يقول أوغست كورنو: «لا شكّ في أن ماركس، الذي كان شديد الميل إلى الشعر ويحس بأنه هو نفسه شاعر، كان يفضل دراسة الأدب على دراسة الحقوق. وهذا يفسر لماذا كان يتابع محاضرات في الأدب وعلم الجمال إلى جانب محاضرات الحقوق»(3). ويقول البروفسور س. س. براور: «قضى ماركس وهو طالب جامعي، في بون أولاً ثم في برلين (1835 - 1841) وقتاً طويلاً ليس في دراسة التاريخ وحده، ولا الفلسفة ولا القانون، بل الأدب أيضاً. واستمع إلى محاضرات أ. و. شليغل عن هوميروس وبروبرتيوس، ومحاضرات ف. ج. ويلكر عن الأساطير اليونانية والرومانية، ومحاضرات برونو باور عن إشعيا، ونسخ كتابات لليسنغ وسولغر وفينكلمان في علم الجمال، وحاول أن يبقى على اتصال بكل ما هو جديد في الأدب، وطور أسلوبه بترجمة تاسيتوس وأوفيد، وانضم إلى ناد للشعراء الشباب»(4).

إخفاقات الشاعر والمسرحي

بل إنّ ماركس كتب في هذه الفترة ديواناً شعرياً ومسرحية شعرية وروايةًعنوانها «سكوربيون وفيليكس» أنجزها على عجل وهو مفتون برواية لورنس ستيرن تريسترام شاندي. لكنه أخفق وأقر بالهزيمة بعد هذه التجارب وشارف على الانهيار: «فجأة... بضربةٍساحقة... تقوضت إبداعاتي جميعاً وتلاشت... وكان لا بد من تنصيب آلهة جديدة»(5).

وبحسب فرانز مهرنغ، فإن ماركس نفسه أصدر حكماً بالإدانة على أشعاره المهداة إلى خطيبته. ورأى مهرنغ نفسه أن تلك القصائد «تتكشف...، بشكل عام، عن نفَس من الرومانسية التافهة، ونادراً ما يتخللها نفَس شعري حقيقي. وبالإضافة إلى ذلك فإنها كانت من الناحية الفنية خرقاء وبائسة»(6). وكتبت لورا ماركس لافارغ إلى مهرنغ، وهي ترسل تلك القصائد إليه، إن أبويها كانا يضحكان كثيراً بصددها حين يصادف أن يتحدثا عنها(7).

السؤال هنا، هل كان ماركس مجرد متلق جيد للأدب الجيد، خالياً هو نفسه من المهارة الأدبية والموهبة الشعرية؟ وعلى أي أساس إذن يعتبر كثيرون أنه قدِّر له لاحقاً أن يصبح كاتباً كبيراً تمكن مقارنته بلسنغ ونيتشه من حيث دقة الأسلوب وقوّته والجمال الرائع لاستعاراته البلاغية والأدبية، كما قدِّر لإحساسه الدقيق بالشعر أن يجعل منه المستشار مرهوب الجانب والمحبوب في الوقت ذاته لشعراء كبار مثل هنريش هاينه وف. فرايليغرات؟ الجواب، بحسب كورنو، أن روح ماركس كانت حينئذ شديدة القلق والهموم، وخياله محموماً جداً، وأفكاره شديدة الاضطراب بحيث كان محتّماً على شعره أن يضيع وسط الموج. وكان هو نفسه يعي ذلك، إذ وصف في رسالة إلى والده محاولاته الشعرية الأولى وإخفاقاته فيها: «في الجو الذهني الذي كنت فيه حينئذ... وكما كان يحتّم الوضع الذي كنت فيه وكل تطوري الفكري، كان (شعري) شعراً مثاليًّ بحتاً... واقع ينطمس ويتبدد إلى ما لانهاية له، واتهامات ضد الآونة الحاضرة، ومشاعر غامضة ومشوشة، وفقدان تام للشيء الطبيعي، وتراكيب في الغيوم، وتعارض مطلق بين المثال والواقع، والبلاغة والحجج الفكرية تحل محل الإلهام الشعري وربما مع بعض الحرارة في المشاعر وبعض الانطلاق الوجداني: تلك هي صفات دفاتر الشعر الثلاثة التي تلقتها جيني. ويتجسد فيها، في وجوه مختلفة، كلّ لا نهاية رغبات ومطامح لا تعرف حدوداً... تعطي الشعر الذي يعبّر عنها طابعاً عديم الشكل»(8).

واضح، إذن، حضور الأدب في حياة الفتى ماركس وأعماله على نحوين: أدب الآخرين وأدبه هو ذاته، إنما المخفق. وسوف يتواصل هذا الحضور في حياته وأعماله الراشدة على النحوين ذاتهما، إنما مع فارقين في ما يتعلق بأدبه الخاص: أولهما هو أن هذا الأدب سيكون منتثراً في أعماله التي لا تقتصر بأي حال من الأحوال على كونها أدبية، بل التي تبدو في الظاهر وخطأ على أنها أبعد ما تكون عن الأدب، وثانيهما، هو أنه سينجح نجاحاً باهراً هذه المرة. وما من تفسير لهذا النجاح سوى أن أفكار ماركس كانت قد تحولت منذ مغادرته الجامعة ذلك التحول الحاسم والشهير من المثالية إلى المادية، من المجرد إلى الفعليّ

أدب الآخرين لدى ماركس

يحضر أدب الآخرين في أعمال ماركس، لاسيما في «رأس المال»، إلى جانب ما يحضر فيها من الأنثربولوجيا والاقتصاد السياسي والتاريخ وسوى ذلك من الفروع المعرفية والإبداعية الواسعة التي أحاط بها واعتاد أن يحشدها في كتاباته بأسلوب اصطفائي كلّي المعرفة. ويبدو وصف ماركس لديمقريطس في أطروحته للدكتوراه، «الفارق بين فلسفة ديمقريطس وفلسفة أبيقور»، أشبه بصورة له هو ذاته: «يصفه شيشرون بأنه متبحر تماماً. فهو كفوء في الفيزياء والأخلاق والرياضيات وفي الفروع الموسوعية وفي كل فن».(9)

وكان ماركس يقول في بعض الأحيان، وهو يشير إلى الكتب على رفوفه:

«أولئك عبيدي، ويجب أن يقوموا على خدمتي كما أشتهي». فمهمة هذه الكتب، أو قوة العمل المجانية هذه، كانت تتمثل في أن توفر له المادة الخام التي يمكن عندئذ أن يشكلها بحسب أغراضه. وكتب صحافي من الـ«شيكاغو تريبيون» زار ماركس عام ١٨٧٨ وأجرى معه لقاء: «لا يجري حديث ماركس على غرار واحد، بل يتنوع تنوع الكتب على رفوف مكتبته. ويمكن عموماً أن نحكم على رجل من خلال الكتب التي يقرأها، وهذا ما يمكنكم أن تفعلوه باستنتاجاتكم الخاصة حيث أقول لكم إنّ نظرة عابرة قد كشفت عن شكسبير وديكنز وثاكري وموليير وراسين وبيكون وغوته وفولتير وبِنْ، وعن كتب زرقاء إنجليزية وأميركية وفرنسية، وعن أعمال سياسية وفلسفية بالروسية والألمانية والإسبانية والإيطالية، إلخ...إلخ».(10) وفي العام ١٩٧٦، وضع البروفسور س. س. براور كتاباً في نحو ٤٥٠ صفحة مكرساً بأكمله لإحالات ماركس الأدبية. ففي المجلّد الأول من «رأس المال» نجد مقتبسات من الكتاب المقدس وشكسبير وغوته وملتون وفولتير وهوميروس وبلزاك ودانتي وشيللر وسوفوكليس وأفلاطون وثوكيديدس وزينوفون وديفو وسرفانتس ودرايدن وهاينه وفيرجيل وجوفينال وهوراس وتوماس مور وصموئيل بتلر، فضلاً عن إلماعات إلى قصص الرعب التي تحكي عن المستذئبين ومصاصي الدماء، والقصص الشعبية الألمانية والروايات الرومانتيكية الإنكليزية والأغاني الشعبية والعادية والمقفاة وصنوف الميلودراما والهزليات والأساطير والأقوال المأثورة.

يقول الناقد والمفكر الأميركي مارشال بيرمان: مؤلف «رأس المال» هو «واحد من العمالقة العظماء المعذبين في القرن التاسع عشر إلى جانب بيتهوفن وغويا وتولستوي ودوستويفسكي وإبسن ونيتشه وفان غوخ، ممن دفعوا بنا صوب الجنون، كما دفعوا أنفسهم، لكنّ عذابهم ولّد قدراً كبيراً من الرأسمال الروحي الذي لا نزال نعتاش عليه». بيد أن ذلك كله يبقى كلاماً عاماً خارجياً لا يظهر أدب ماركس ذاته إظهاراً ناصعاً. ولعلنا نحتاج إلى التركيز على عمل بعينه تركيزاً مفصلاً كي تظهر تلك الأدبية بأكمل الوضوح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش

1.Eleanor Marx, from: «Recollections of Mohr» (1895), in Marx & Engels, On Literature & Art: a selection of writings, ed., Lee Baxandall & Stefan Morawski (St. Louis / Milwaukee: Telos Press,1973), p. 147 انظر ترجمة عربيّة لذكريات ابنة ماركس هذه عن والدها في: إيليونورا ماركس - إيفلنغ، «كارل ماركس (ملاحظات موجزة)»، في كارل ماركس وفريدريك إنجلز في ذكريات معاصريهما، ترجمة سليم توما (موسكو: دار التقدم، 1985)، ص 136

  1. انظر: S. S. Prawer, Karl Marx and World Literature, (London and New York: Verso, 1976, 2011), pp. 1 - 2 وانظر: ولهلم ليبكنخت، «من ذكريات عن ماركس»، في كارل ماركس وفريدريك إنجلز في ذكريات معاصريهما، ص 381 - 382
  2. أوغست كورنو، ماركس وإنجلز: حياتهما وأعمالهما الفكريّة، المجلّد الأوّل: سنوات الحداثة والشباب، اليسار الهيغليّ، 1818 - 1844، ترجمة محمّد عيتاني (بيروت: دار الحقيقة، من دون تاريخ للنشر)، ص 80

4.Brawer, pp. 3 - 4

  1. فرانسيس وِينْ، رأس المال لكارل ماركس: سيرة، ترجمة: ثائر ديب (الرياض: العبيكان للنشر، 2007)، ص 20
  2. فرانز مهرنغ، كارل ماركس: تاريخ حياته ونضاله، ترجمة خليل الهندي (بيروت: دار الطليعة، 1972)، ص 16
  3. كورنو، ص 86
  4. المصدر ذاته، ص 87 - 88
  5. فرنسيس وين، ص 22
  6. المصدر ذاته، ص 100 - 101

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“الاتحاد” الحيفاوية – 19 آذار 2021

عرض مقالات: