في الرابع عشر من تموز عام ١٩٥٨، وفي الساعة السادسة صباحا من ذلك اليوم التموزي القائظ أعلن راديو بغداد قيام الجمهورية العراقية إثر إلغاء النظام الملكي، وأنا شاهد عيان، لم يلتف العراقيون حول موضوع كما التفوا حول الجيش وهو يعلن ذلك التغيير في بنية الدولة العراقية. ونقولها للأمانة التاريخية، إن من كان سببا في نجاح الثورة هو قيام الشعب وبصورة تلقائية بمتابعة أزلام النظام البائد والقاء القبض عليهم، أو تنفيذ حكم الاعدام الشعبي في البعض منهم،، ولمن لا يعرف حقيقة تلك الأيام، نقول لقد بادر المواطنون بإعلان التأييد للثورة منذ اللحظات الأولى وهم يربطون تمثال الجنرال مود (باعتباره رمزا للاحتلال البريطاني للعراق عام ١٩١٧) الذي كان منتصبا أمام السفارة البريطانية في منطقة الكريمات، وتم سحبه بسيارة تعود لشركة بريطانية كانت تقوم بالتأسيسات الكهربائية في بناية البلاط الملكي وبناية البرلمان( ميركوري موديل ١٩٥٦)، وقد كنت شاهدا لما حدث بعد ذلك لتمثال الملك فيصل الاول المقام في ساحة جمال عبد الناصر . وقد بدأت تظاهرات التأييد تزداد، مما دفع بحكومة الجمهورية الوليدة لإعلان حالة منع التجول اعتبارا من الساعة الثانية عشر ظهرا.
أن السبب الرئيسي والمطلق للتأييد الشعبي العارم لثورة يكمن في شدة ظلم الإقطاع للفلاحين، باعتبارهم يشكلون السواد الأعظم من الشعب العراقي آنذاك، واستغلال قوة عملهم مما دفع بالكثير من الفلاحين لهجرة الريف والعيش في أطراف المدن أو السكن بصرائف بين الدور السكنية في الأحياء البغدادية، وأن تخلي الإقطاع الممثل بشيوخ العشائر آنذاك عن نظام الأسرة الزراعية أدى إلى نمو الفقر، وان ما يحصل عليه الفلاح سنويا من إيراد عيني يطلق عليه شعبيا (جسبات العبد)، وهو ما يجود به الاقطاعي على الفلاح المنتج وصاحب الفضل آنذاك في تكوين ثروة الاقطاعيين الذين كانوا يمتلكون ٨٠ بالمئة من أراضي العراق الزراعية ليلة ١٤ تموز عام ١٩٥٨، حيث كان أغلب الاقطاعيين يمضون ليلتهم تلك في ملاهي بغداد الليلية . وقد كان من وسائل تقريب الشيوخ الإقطاعيين هو اعتماد الإرادة الملكية في تعيين ربع أعضاء مجلس الاعيان في البرلمان العراقي من أولئك الشيوخ المتنفذين.
إن قيام الجمهورية كان قد وحد جميع العراقيين، وأن إجراءات حكومة الجمهورية الفورية، هي القضاء على الفقر، وحل مشكلة الصرائف، لذا تم إنشاء مدينة الثورة (على سبيل المثال) بقطاعاتها الحالية وتم منح كل عائلة قطعة أرض بمساحة تصل إلى ١٤٠ متر مربع، في الوقت الذي كانت فيه مساحة أغلب الدور البغدادية عام ١٩٥٨ لا تتجاوز ال ١٠٠ متر مربع. اضافة إلى منجزات تتعلق بالسيادة الخروج من حلف بغداد، وتتعلق بالصحة إنشاء مدينة الطب، والتعليم العالي إنشاء جامعة بغداد، والاقتصاد إقامة المعامل، وإنجازات أخرى لا زالت أمام المواطن ومنها قناة الجيش.
أن محاولة تقطيع تاريخ العراق الحديث، أو محاولة التعتيم على تاريخ قيام الجمهورية، هي محاولات يراد منها إبعاد الأجيال عن أهم النقاط المضيئة في تاريخ بلادهم أو المناسبات التي تعد وطنية بلا منازع يجتمع حولها الجميع.
إن حجب يوم ولادة الجمهورية العراقية في الرابع عشر من تموز بغربال الأقلية يعد منازلة خاسرة أمام إرادة شعبية سجلها التاريخ على نفسه وكانت بالإجماع عيدا وطنيا لم يستطع حتى البعث محوه، والكل يعلم أن التاريخ لا يسير وعلى وجهه قناع، فقد عاش هذا التاريخ مع شعبنا وهو يحتفل كل عام بعيد الجمهورية لأنه اليوم الوحيد الذي يتفق عليه الجميع دون استثناء أو اعتراض.