اخر الاخبار

يرِد في نصوص الخيال السياسي الحديثُ عن السرد الثوري، بوصفه إمكاناً سياقياً ميسوراً بلا قيود أو محاذير. ولقد كُتِبَتْ نصوص كثيرة عن انتفاضة تشرين العراقية سِيقت مساقَ الأدب السياسي الثوري؛ وربما الوقت قد حان لمراجعة هذه النصوص، وفحص إمكاناتها الواقعية_ وإن كانت هذه المراجعة قريبة الأمد، وحقوق المنتفِضين لم تُلَبَّ بأكملها. وأول هذه الفحوصات يتعلق بأخلاقيات الكتابة الثورية، وسلامة الموقف من الاندفاع التضحوي المبتذَل، وغواية الباعث الثوري الآخذ بتلابيب النصّ المنزَّه من طوارئ اللحظة العنيفة، الممكِن في حينه وفوريته.

يعتقد كثيرون أنّ السرد الممكِن_ كالسرد الثوري_ هو سرد “فاضل”.  لكن الفضائل الجميلة لا يؤسّسها سردٌ “فاضل” وإنما الأخطاءُ الشنيعة والعثرات المتتالية، وأكبرها خيانة الواقع الحيّ الزاخر بالممكِنات والحوافز المرجعية. غير أن هذه المعضلة البنيوية، المتمثّلة في الممكِنات التي تقمعها المحظورات السلطوية والأيديولوجية الفئوية، تزداد تعقيداً عندما يقدّم الواقعُ اليومي تفاصيلَ مضبَّبة، مثل الخيال الثوري، وأمثولاته المتفرِّدة كانتفاضة تشرين وشخصياتها التضحوية، موضوعاً سردياً مغرياً للكتابة. تظلّ هذه الممكِنات المغرية قابعة في الظلّ، معلّقة في جِزارة الواقع، أو مجمَّدة في ثلاجة السرد السياسي. لكن الممكِن “المقموع” سيظهر يوماً ليفضح ولائمَ المجزرة، وسيطلّ “الوجهُ الآخر” للكاتب الممتنِع عن تعريف سرده حسبما يرغب “الفاضلون” ليخرق أخلاقيات الكتابة كما تفرضها أيديولوجيا السلطة المهيمنة.

  لقد تكررت هذه الأمثولة، أمثولة الكرّ والفرّ السردية، في غمار ممكناتٍ واقعية سابقة، نضرب الآن لها مثلاً جلياً، من مرحلة الربع الأخير من القرن العشرين. كان “الجزّار” التاريخي يرتدي قناعَ الكاتب الذي يتوارى في ظلّ الذبيحة_ واقع الحرب المقطَّع_ متظاهراً بفضيلة زائفة، الدفاع عن حياض الوطن. وفي ذلك الوقت، كان “تغييب” المرجع/ المصدر_ الواقع الحيّ والحارّ، واقع الحرب المُخزي_ معضلةً من معضلات الكتابة السردية؛ وكان افتداء المرجع الحيّ بأضحية أكثر برودة وعفونة_ الأسطورة_ هدنةَ الكاتب القصيرة، تعويضَه الأخلاقي أمام خزيه الشخصي، وهروبه من معضلات السرد النقيض لأخلاقيات الكتابة السلطوية. لكن، بعد هذه المرحلة، وفي ظرف مختلف، كانتفاضة تشرين، يلحّ السؤالُ نفسه: أنعتبر استئنافَ فعل “تغييب” الواقع، وتعويضَ الحال بوثيقة خرقاء_ كالثورة_  أنجعَ من تعويض “الأسطورة” للفرار من تلك المعضلة المزمنة؟ إلى متى يؤخِّر الكاتب اعترافَه ب”جرائمه” السردية، مقدِّماً الأضحيات بدل الواقع_ واقع المجزرة_ الممكِن؟ هذا ما سأشرحه فوراً.

منذ اطلاعي على كتُب مهمة: (البؤساء) و(قصة مدينتين) و(العَقِب الحديدية) (الأمّ) (الدكتور زيفاكو) وقريناتها (1984) و(مارا صاد) و(في انتظار البرابرة)_ أسكنْتُ نفسي رغبةً في صنع عالم ثوريّ خاصّ بي، ليس بالضرورة أن يكون راديكالياً أو عدميّاً؛ فقط أن تصنع من أبخرة حمّام الثورة مناخاً سردياً مختلفاً غير ساكن وبارد المشاعر، كالوثيقة الأسطورية. وفاتني أن أحقق فكرة الثورة في أعمالي، رغم مرور سنوات القرن الماضية، الحافلة بأجواء الحمّامات العنيفة، حتى حانت الفرصة خلال تظاهرات بغداد والبصرة والناصرية ومعظم مدن العراق خلال العامين ٢٠١٩_ 2020، فخشيتُ ان تنطوي هذه الفرصة دون تحقيق أحد الأحلام الثورية الماضية، فاخترتُ من أبخرة الافكار الثورية المتلاشية قصصاً قليلة دسستُها في مجموعة (المحجر) الصادرة في مطلع هذا العام ٢٠٢١. وها أنتم ترون أنّي “ثوريّ” حالم، أتصيّد الأفكار على الورق_ ورق الجِزارة، كما تصيّدها بيتر فايس في بانيو جان بول مارا_ خطيب الثورة الفرنسية_ قبل وفاته في مصحّة شارنتون للأمراض العقلية العام ١٧٩٣ (ارجعوا الى لوحة جاك لويس ديفيد الشهيرة عن اغتيال مارا في حمّامه الخاص على يد امرأة مهووسة بتضحية جان دارك الدينية)، أو على الأكثر أتصيّدها في الماء العكر، كما يقال في كلامنا الشعبي. وليست كالثورة_ فكرتِها_ عكورة وضبابية تعزلنا عن الواقع وتجعله بمتناول أيدينا في الوقت نفسه. نعم، أرى في الكتابة القصصية محاولة صيد_ بمعانٍ مختلفة_ قبل كلّ شيء، ومنها أن تغوص وراء حلم الثورة في الأعماق العكِرة_ اللاواعية_  لكاتب محكوم بصدفة “الصيد” في مياه واقع ممكِن، ملئ بأخيلة المآتة_ المجزرة_ مصحّة الجنون.

  لستُ ثورياً، ولا أدعو للثورة، لكنّي أتشبّث بأسلوب ثوريّ لتحرير منطلقاتي السردية التي قيّدتها “الصدفة”. هناك “صيرورة ثورية”_ كما يتحدث جيل دولوز: “لا تشكل شيئاً واحداً مع مستقبل الثورة، ولا تمرّ بالضرورة عبر المناضلين”. وهي_ أي الصيرورة: “ليست محاكاة ولا تقليداً لنموذج ولا تطابقاً معه، ولو كان نموذجَ عدالةٍ أو حقيقة”. ليس للصيرورة حدّ ننطلق منه أو نصل إليه، فما نصيره أو نصير إليه، يكون خاضعاً للتغيير بقدر ما يتغير هو ذاته: “ليست الصيرورات ظواهر من المحاكاة او التشابه، وإنما هي ظواهر من الاستيلاء المتبادل والتطور اللامتوازي والقرانات بين مجالين”.

  إذن، هذا ما يطلبه الكاتبُ_ في هذا الجانب من العالم، وفي هذا الوقت_ لإنقاذ سردياته من الغرق في أبخرة الثورة؛ أساطيرَ وتعويضات تمدِّد “هدنته” مع الواقع_ المآتة_ المصحّة التي ربما سبّبت_أي الهدنة_ “خيانة الوصايا” حسب تسمية ميلان كونديرا.

عرض مقالات: