اخر الاخبار

لا أمام لمن لا وراء له. الماضي، سواء أكان تاريخاً أو تراثاً، هو جزء من كياننا، هو نحن في حاضرنا، لا بما يعنيه هذا الحاضر من استعادة واجترار، بل بما يكون به الحاضر صيرورة وتقدما. فنحن اليوم، غير ما كناه في الماضي، وهذه حتمية تفرضها طبيعة التحول، وطبيعة الزمن نفسه الذي هو نهر، مجراه يتدفق في أكثر من اتجاه، بسبب ما في النبع من حياة، ومن ماء، ليس هو نفس الماء.

السكون، في العربية، هو عكس الحركة، وهو الجمود والانحسار، أو البقاء في نفس الشيء، وفي نفس المكان، بنفس الصورة، ربما، وبنفس المعنى. ولفهم طبيعة الوجود، لا بد من فهم المعنى، الذي هو الفكرة في انبثاقها وتجددها، وفي ما تجري به من متغيرات، ومن أطياف، وما تجري به من تنوع وتلون. فكر الإنسان، هو هذا المعنى الذي هو العقل والخيال، وهو التدفق والصيرورة. والتراث، هو هذا، لأنه ليس واحداً، وليس حجراً منطوياً على سكونه. ففي التراث، نحن أمام أكثر من معنى، وأكثر من رأي، بل أكثر من طريقة، وهنا نتكلم عن المنهج والرؤية، في مقاربة الأشياء والنظر إليها.

الساكن، يرى الأشياء ساكنة، والمتحرك، ينظر إليها وهي تتغير، وتأخذ أكثر من شكل ولون، وأكثر من معنى. الرأي الواحد، هو معنى واحد، وهو فكر واحد، وهذا ما يفضي إلى الإنسان الواحد، بنفس اللسان، ونفس الكلام، ونفس الوجود. بِركة، ماؤها مستقر، لا حياة فيه.

حين نعود إلى الماضي، فنحن نعود إليه، باعتباره سؤالاً، وباعتباره اكتشافاً، وفيه نرى كيف كان وجود من سبقونا، كيف كانوا يفكرون وينظرون، وكيف كان يرون الوجود، وكيف كانت علاقتهم بالأرض وبالسماء، من منهم مال إلى الحركة، ومن منهم استقر وثبت، واختار أن يكون وجوده بركة، ومن اختار النهر بنبعه الحي المتجدد، كما تتجدد الطبيعة، وتتجدد الحياة، بما يحدث فيها من انقلابات، ومن استمرار. لا نعود إلى الماضي، لنكون هذا الماضي، بالحرف والنقطة، العودة، هي مراجعة وتدقيق، وهي عودة تساؤل، وإعادة اكتشاف، لأن الماضي، في معناه التراثي، هو ما لم يكتشف بعد، فيه أشياء كثيرة، ما زالت غامضة، إما بفعل القِدَم، أو بفعل ما جرى من قراءات سابقة حَجَبَت عنا هذا الماضي، أو سعت إلى الحسْم فيه، بما لا يجعل الحاضر يقرأ هذا الماضي، أو يعيد النظر فيه، إلا بشرط هذه القراءات المغلقة التي لا تقبل غيرها من القراءات والمراجعات، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بما نعتبره أصولاً.

وهذه، هي مشكلة المدرسة، عندنا، ومشكلة الجامعة، وهي نظام فكري ثقافي، يغض النظر عن الحاضر باختصاره، أو بتذويبه في الماضي، أو بالنظر في الحاضر بمرآة الماضي. فالأنظمة، بإصرارها على احتواء التعليم، وعلى توجيه برامجه، فهي حريصة على قراءة تنسجم مع طبيعة العقل الذي يقودها، أو تسعى إلى تعميمه. العقل الذي يستجيب ويجيب، لا العقل الذي يسأل ويتساءل.

من ينظر في المنهاج الدراسي لأي مستوى من مستويات التعليم، بما في ذلك الجامعة، سيجد أن المنهج واحد، والرؤية واحدة، والنص واحد، الألوان التي تتراءى لنا، هي نفس اللون، بما ينعكس عليه من تأويلات، كلها تصب في نفس المعنى، وتأخذ النص إليه، بالمعنى الذي يجعل الطرق كلها تؤدي إلى روما.

هذا النوع من الأنظمة، هو تعطيل للإنسان، وتعطيل للمجتمع، وتعطيل للفكر، وتعطيل للاقتصاد والتنمية والاستثمار، إذا أردنا أن ننظر بالمعنى المادي الصرف لمعنى النظام كما تراه الدول والحكومات التي لا توسع أفق الرؤية، وتبقى سجينة خوفها من التغير، ومن الحركة، وترى في السكون حلا لاستمرارها في القيادة والحكم. التاريخ يؤكد أن كل من رغبوا في التغيير من الفلاسفة والمفكرين، ومن علماء الدين، والفنانين، تعرضوا للقهر والقمع، ومنهم من لقوا حتفهم، لا لشيء، إلا لأنهم فكروا بطريقة أخرى، ونظروا في الماضي، بمرآة الحاضر، أو بما توسع من مناهج وعلوم وأفكار، ليست هي ما كان من قبل. وفي أقل الحالات تشنجاً، تمّ تجاهل هؤلاء، وابتذال ما يكتبونه ويقولونه، ووضعهم خارج الاهتمام العام، خارج المدرسة، وخارج الإعلام، بل خارج التداول، بمنع كتاباتهم ومصادرتها، لما فيها من تساؤلات واختلاف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صحيفة “المساء” المغربية – 2 آذار 2022

عرض مقالات: