اخر الاخبار

انتميت للحزب الشيوعي العراقي عام 1972، كان ابي شيوعيا تعرف على أفكار الحزب في سجن الكوت، لم يقرأ كتب ماركس وانجلز ولينين ولكنه تعرف في السجن على رجال فكر وادباء شيوعيين حين كان مسجونا معهم، قبل ان يُفتن بأفكار الحزب فتن بسلوك هؤلاء المناضلين وتواضعهم وجمال احاديثهم وهم يتكلمون بشؤون الحياة المختلفة سياسة واقتصاد وأدب وامور اجتماعية، عاش ومات وهو مؤمن بهذه الفكرة التي سحرته رغم أنه خريج مدارس الملالي التي علمته بشكل بسيط أصول القراءة والكتابة، تعرفت أنا على هذه الافكار وأنا في الثالثة عشر من عمري في ستينات القرن الماضي  حيث كانت تصل أبي المناشير الحزبية في علوته لبيع الحبوب، كنت أنا من يقرأها له فعرفت كلمات البروليتاريا والاشتراكية والشيوعية والنضال الوطني وحركات التحرر الوطني والرجعية واليسارية والكثير من المصطلحات التي تعج بها منشوراتهم وادبياتهم. في عام 1972 انتميت الى اتحاد الشبيبة بتشجيع من أبي وحين دخلت الكلية عام 1973كنت معبأ بالافكار الاشتراكية فعملت في اتحاد الطلبة وحين أعلنت الجبهة الوطنية في العام نفسه كنت من قادة الحزب في الكلية. كان إسمي الحزبي شلال وكان المسؤول عن خليتنا في بغداد عامل ليس لديه تحصيل علمي لكني، ولغاية الآن، لم أر أو سمع اكثر لباقة وفصاحة منه كنت أتأمله وهو يصوغ جمله فتخرج عقودا من اللؤلؤ فسألته من أين لك هذه القدرة وهذا الأفق السياسي الكبير رغم أنك لم تنل على شهادة دراسية عالية او جامعية، ضحك بقوة وقال لي ( من قال لك ان الثقافة حصرا بالدراسة الجامعية، الثقافة اجمعها في حركة الشارع ومن تعابير الوجوه السمر للمتعبين والكادحين وما التقطه من افواه الناس ومعاناتهم وتبقى منافذ الحياة الثقافية، الكتاب الفكري، الشعري، الرواية، القصص، المسرح، الموسيقى، التشكيل، السفر الدائم في الطبيعة وتلوين العينين والمخيلة ببهاء الوجود وجماله، هذا ما علمتني اياه الماركسية وهي بالنسبة لي منهج حياة وطريق رسمه ماركس حين جعل للحياة معنى وكينونة والثقافة نبراس حين قال، الثقافة وسيلة لامتلاك العالم، وأنا أشعر الآن بأني اغنى رجل في العالم لأني أمضي دائما بثقة الى امام..) هذا جزء من حديث مسؤولي الحزبي الذي فتح مداركي ودلني على الغذاء الحقيقي للعقل الا وهي الثقافة، كنا نتأبط الكتب الثقافية منذ شبابنا قبل خمسين عاما وما زال هذا العرف يلازمني حتى يومنا هذا اذ أجد متعة كبيرة حين اتأبط كتابا فأشعر بالأمان وهو يذود عني المهالك والاخطار ويجعل مني محصنا ومتفردا بين أبناء قومي.

تعلمت من عامل شيوعي فقير، إغتاله البعثيون في سبعينيات القرن الماضي، إن الثقافة بحر شاسع لا يسبر غوره، فقد زرع فيّ مبدأ الشك، تعرفت عليه من خلال صديقي فرعون ونحن شابان في الثامنة عشر من العمر، كنا نلتقي كل عصر في مقهى بسيط في مدينة الحلة، كان هذا العامل موسوعيا وشاعرا وذا ذاكرة غريبة قادرة على حفظ الاسماء والاحداث والاشعار وصادف مرة ان كان يناقش كتاب ( تاريخ الحركات الفكرية في الاسلام لمؤلفه بندلي جوزي ) وذكر احدى المعلومات المهمة في الكتاب ما دفعني أن اعارضه لأن ما سمعته منه زلزل كياني فقال تجد هذه المعلومة في هامش صفحة ذكر لي رقمها، وصادف ان وجدت هذا الكتاب، بعد فترة قصيرة، في شارع المكتبات في الحلة أيقنت عندها ان ما ذكره حتى رقم الصفحة كان دقيقا، فقرأت الكتاب بتأن فعلمت عندها أن لا هناك حقيقة مطلقة في الكون وإن الشك مفتاح المعرفة. كان ما يشغلني، وحتى يومنا هذا، ان اكون مثقفا لان مفردة الثقافة شمولية ولا تعريفا محددا لها وحين تشير لي الناس بأني مثقف عندها قد أكون قد حققت حلمي وسأكون أغنى اغنياء العالم  وهذا ما درجت عليه بحيث نسيت نفسي وأنا في هذا البحر المتلاطم من الكتب والكلمات، شعرت بأن لي رصيدا بدأ يتراكم في الثقافة ولم أنتبه لوضعي الاقتصادي بل وضعت ما أملك من مال بيد من لا يُؤتمن لأني كنت منشغلا بقطاف ثمار الثقافة الناضجة الشهية، ليقيني ان لا ثقافة حقيقية خارج الماركسية وكل مثقفي العالم المعروفين لا بد أن نهلوا يوما ما من هذا النبع الثر، وقد تهت وأنقطعت عما حولي لأجد نفسي ضحية وتحقق بي المثل الشعبي القائل المال السايب يعلم على السرقة. علمني الحزب الشيوعي وفي بداية حياتي الحزبية في السبعينات، ان أكون وطنيا ولا شيء أقدس من الوطن ويدي نظيفة وعصامي لا أتقرب من المغانم والمال العام وهذا ليس ادعاءً بل إن هذه الاخلاقيات والسلوكيات تزرع أبديا في جينات خلايا المنتمي للحزب والمؤمن بنظريته الفلسفية وأكون محبا للحياة وادعو للعدالة والعيش الكريم للجميع ونبذ الاستغلال والطبقية في المجتمع، في أي مكان اكون، واحترم المرأة وأقدسها وأمتثل للقانون وامور كثيرة اخرى بحيث أن نظرة الناس للشيوعي، الاصدقاء والاعداء، هو المثقف والمثالي، الأكثر من اللازم، والحالم والكاره للعنف والداعي، الى الابد، للسلام والعيش المشترك والمحبة، حقا أنا خجل لأني خارج صفوف الحزب، منذ ثلاثة عقود، لظروف خاصة ولكن ستالين كان محقا حين قال (لو لم أكن شيوعيا لخجلت من نفسي ) تحية الى الحزب الشيوعي العراقي في عيده الثامن والثمانين حزب العمال والفلاحين وكل الكادحين، والخلود الابدي لشهداء مسيرته النضالية الطويلة الناصعة التي علمت الآخرين أصول السياسة النظيفة الخالية من المصالح الشخصية والحزبية..دمتم سادة الوطن..               

عرض مقالات: