اخر الاخبار

رحل مظفر النوّاب الشاعر والإنسان والمناضل، بعد أن وسم مرحلة كاملة، امتدت لأكثر من ستة عقود من الزمان، بطابع الشجن الثوري المتمرد والمخلوط بلوعة العشق الأبدي للعراق وأرضه وسمائه وطينه ونخيله، تاركًا بيننا مدرسته الفذة ودوواينه وأعماله المتناثرة ووصاياه، بعد أن قال كلمته بشجاعة فائقة قل نظيرها، بحق الطغاة، منتصرًا للفقراء والعاشقين ومبتكري الآمال الخضر.

مات مظفر النوّاب، ولملم النقيع الثوري أطراف عباءته الليلية، مرتحلًا إلى وجدان الماء الحرّ والطين الحري. وعادت زرازير البراري إلى قلوب النخيل، بانتظار أسحار أخرى مقبلة، لتقيم صلاة الرفيف وتبتكر الفرح لعيني العراق الحزين.

مات مظفر النوّاب وما زال مهر الليل يمخر عباب البراري والبساتين التي عبر منها الضوء، متأملًا أن تطل زوجة سعود الشابّة من تلك الشبابيك التي طرزها الشاعر بخيوط اللوعة والشوق الجنوبي الهادر. أن تخرج بثوبها الليلي المهفهف وتمسح جبهته المعروقة بكفّها الصغيرة، متحسسة أثر أقدام سعود على الرِكاب ورائحة كفيه القويتين على اللجام، ثم تعاتبه بحزن لأنّه ترك فارسه الحيد في الحومة وعاد يجر أذيال حزنه إليها، ولم تزل حنّة العرس في باطن كفيها وقدميها.

وبين ليلة وغبشها، دسّ فلّاح منجله في جيد السنابل، ونكّس علمه الأحمر، ونظر إلى الأفق الدامي، بعيدًا فوق ذؤابات النخيل، حيث مات الشاعر وانطفأ فانوس عشقه الأبدي للأرض والماء والسنابل ودلال القهوة والهيل. هل ملأت الحسرة روح ذلك الفلاح الشامخ كالطود في أرضه؟ أم هزه الحنين لصوت المغني؟ أم تراه تذكر ذلك العتب القديم حين مرّ بهم ذات ليل بهيم ذلك المغني الذي لم تكتحل عيناه برؤيتهم، على الرغم من أنّه سمع رنين هاونهم وشمّ رائحة القهوة والهيل المنتشرة في الأرجاء؟

كانت محطة “أمّ شامات”  حزينة ونائمة يلفها الصمت، والقطار قد ابتعد مواصلًا رحلته الأبدية نحو الجنوب الوامضة فضّته في جوف الليل، مثل أقمار تستقر على الجروف، بين الماء والطين. وحبيبته نائمة في سريرها الصيفي، محتضنة طائري القطا تحت ضفائرها الغليظة وتحلم بوقع حوافر حصانه الأدهم، حين يتسلل تحت جنح الليل.

مات الشاعر ولم يزل سعود ورفاقه يسرجون الدم على ظهور الخيل، تلك التي تقدح عيونها الكبيرة في الظلمة، ليصبوا غضبهم المقدس على اتباع الشيطان الجافلين من صيحات الرجال.

حتى عندما أصيب حمد وسربله الدّم، وخر من فوق جواده، كان الشاعر يدرك رجفته الأخيرة، فاستدعى طيف حبيبته لتحتضنه وتبعث في جسده الفتي دفء جسدها المعطر وذهب ضفائرها، وتختلط دموعها بدمائه.

مات الشاعر، ورقد رقدته الأبدية، لكن سعود ما زال منتصبًا يفرد طوله المديد في الأفق مثل بيرغ خفاق، يحكي للأجيال قصة الكفاح والحزن والمطاولة، عندما كان الرجال يعقلون أرجلهم ويثبتوا في الأرض مثل جذوع النخل، ليصدوا رصاص أعداء العراق وغدّاريه وسارقي نِعمه ومنتهكي حُرماته، ويمرغوا أنوفهم بالتراب، كي يظل حليب الأمّهات مدرارًا ونقيًا خالصًا للعراق، وتظل الحنطة  متراقصة وسط الغرين المبارك، وطيور القطا آمنة في مكامنها، تلهب خيال العشاق والشعراء والبهاليل.

مات مظفر النوّاب، وعاد ليدفن بين أهله، هؤلاء الذين سيبنون الدنيا ويروضون الزمان. وما زال قطار الليل يجيز المحطات بحزن عراقي، ناثرًا الموواويل والأبوذية وعبق الهيل ورائحة القهوة. قطار الرفاق المار، مثل نسيم ليالي الأصياف في محطات العمر، ليدقّ أبوابها، واحدة واحدة، ويوزع الحلوى والأمل الأخضر. ومن بعيد، من جوف العراق الحزين، يلتفت الشاعر وهو في تابوته محمولًا على الأكتاف، صوب الجنوب مودعًا وموصيًا محبيه بأن لا يسمحوا للوعتهم الثورية بالانطفاء ولا لنضالهم أن يبرد، حتى يتحرر الفقراء ويمتلكوا كرامتهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

افتتاحية العدد 103 من جريدة “الطريق الثقافي”

عرض مقالات: