اخر الاخبار

ناقش الكثير من الباحثين (ولع) العراقيين بالسياسة، وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها, فالسياسة والاحداث السياسية تحتلان مكانة مهمة من حياة المثقف ويرجح  د.(علي الوردي) ولع العراقيين بالسياسة عن طريق :

- الاخذ برأي الجاحظ بأن أهل العراق “ أهل نظر, و فطنة ثاقبة، ومع النظر, والفطنة يكون التنقيب والبحث ومع التنقيب, والبحث يكون الطعن, والقدح, والترجيح بين الرجال, والتمييز بين الرؤساء, واظهار عيوب الامراء “.

- ان حدة الوعي السياسي هي “وليدة (الانقلابات), و(الانتفاضات), و(الوثبات)، فكل حدث هو بمثابة مدرسة شعبية تحرك الاذهان نحو السياسة, وتزيد عدد المولعين بها، فالاحداث السياسية مجال للتنفيس، فيستطيع الفرد بها أن يشبع رغبته في التذمر أو يضع اللوم في فشله “ .

وبهذا فان السياسة هي الوسيلة في التنقيب عن الحاكم الاصلح,، وسيلة سهلة للتنفيس عن رغبات الفرد إزاء فشلهِ. ويجد د.(يوسف عز الدين) أن المشكلات الاجتماعية متشابكة مع المشكلات السياسية, فمشكلات المرأة, والتعليم, والفلاح, والاقطاع, والفقر, والمرض, والجهل وثيقة الصلة بالقضايا السياسية, ولايمكن فصلها عنها. وقد تغيرت وظيفة المثقف من خدمة السلطان, والوالي, واتجه للشعب وخدمته. وبهذا فان السياسة واهتماماتها هي القاسم المشترك بين المثقف ومجتمعهِ.

ويجد (عباس العزاوي) أن المثقف يتصل بالسياسة ولا يتجرد من فكرة موافقة أو معارضة، محبذة أو مستاءة أو مقارعة ومناوئة. وهكذا “استغل الشعراء تلك الاوضاع ليعبروا عن أفكارهم ومشاعرهم إِزاء الاحداث”. فالاحداث السياسية تعطي (الهاماً) للشاعر كي يعبر عن آرائه في مختلف القضايا.

ويرى الشيخ (علي الشرقي) طغيان السياسة في حياة المجتمع العراقي “فلا نرى في الأمة الا سياسيَّاً، وساسة حتى كأن الجمهور العراقي كلهُ طائفة سياسية. فالسياسة في الجوامع, والمخادع, والمقاهي, والاسواق, والطرقات, والمدارس, والثكنات العسكرية” فيما المشكلات السياسية أشد وضوحاً, واكثر احتكاكا بحياة المجتمع العراقي.

ويجد د.(مجيد خدوري) أن الوعي السياسي دافعٌ مباشرٌ لاتجاه الفئات المثقفة لتعميق ثقافتها السياسية, والبحث عن الوسائل التي تستطيع أن تسهم في حل هذه المشكلات، فقادها هذا الوعي الى التعرف على بعض جوانب الفكر الاشتراكي، والماركسي منه بشكل خاص. ويبدو أَنَّ هذا الرأي من أصوب الآراء التي تقودنا الى الحديث عن التأثر بالمدرسة الواقعية ودور الدعوات المتمثلة في الفن للحياة أو للمجتمع، والفن للفن، فضلا عن قضايا الالتزام عند المثقف.

ولعل رواية محمود أحمد السيد  (جلال خالد) أنموذج لمثقفي جيل العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، الذين أخذوا بالاطلاع على الادب الواقعي الروسي, وتأثروا به كثيراً. “فهو مثقف أدرك عقم الانكباب على فكر امتاز بعاطفيته من خلال قراءتهم للمنفلوطي وجبران, وهم يواجهون واقعهم الاجتماعي المليء بالمشكلات السياسية, والاجتماعية, والاقتصادية”. 

ويجد (حنا بطاطو) ان “من المشكوك فيه امكانية اعتبار رواية (جلال خالد) أو قصصه القصيرة اعمالا فنية، ومع ذلك فقد نجح السيد.. في رسم الصعوبات والحيرة التي يعانيها ابناء جيله”. ذلك ان محمود احمد السيد عبر في روايته عن الافكار الجديدة لصديقه (حسين الرحال). حيث اعتمد السيد على الكثير من تجربة (حسين الرحال).

وبهذا ارتبط العديد من المثقفين باتجاهات سياسية محددة تتصف بنزعة تقدمية يسارية, ويغلب عليها الطابع الثوري. فكان الالتزام السياسي الذي قاد الى الواقعية السياسية. وهكذا تبنى الجيل الناشئ الجديد الافكار الواقعية من الذين “تفتحت أبصارهم ليس على ما يبدعه الفكر الغربي من علوم وفنون وما يدين به من عقائد وأفكار وحسب، وانما ايضا على واقع الحياة العراقية وما يعج به المجتمع العراقي من تناقضات ويصطرع بين طبقاته المتخاصمة من رغبات”.

وطرحت الآراء حول دور المثقف في المجتمع عن طريق دعوات الفن للحياة، أو للمجتمع. فقد تمثلت هذه الآراء بضرورة أن يلعب المثقف دوراً في كشف التناقضات في المجتمع والتعبير عن آلام المجتمع وآماله، او (النفاذ الى الداء ثم وصف الدواء) والوقوف عند هذا الحد. فاذا استطاع المثقف تحقيق ذلك فقد أدى رسالته. واخيراً أن توكل الى المثقف مهمة (نضالية)، تغييرية من اجل الاصلاح، ومن أجل علاج الواقع.

فهذه الدعوات تعبر عن بدايات الاطلاع على الفكر الماركسي الذي يرى أن مهمة الفكر ليست تفسير العالم, بل تغييره،  وهنا نتذكر واقعية (روجيه غارودي) فالمثقف “ لا يرسم الواقع  كما هو, مستقلاً عنه, وبلا مشاركة منه. لانه غير مكلف فقط بتقديم تقرير عن نتيجة المعركة, بل هو مطالب ككل إِنسان آخر لا بالاعتقاد بتفسير العالم, ولكن بالمشاركة في تغييره”.

وهكذا فنحن أمام المثقف (فرانز فانون)، الذي هضم ثقافة الغرب, ثم مر بمرحلة القلق التي تغريه بالعودة الى ذاته، ثم مرحلة المعركة التي يوظف المثقف إِنتاجه في سبيلها. ولكن هذا لا يشمل جميع المثقفين العراقيين بل فئة (الشباب الصاعد المتوثب)، الذي نوه عنه د. (يوسف عز الدين ). وأخيرا ً لابد من الاشارة الى رأي (يوسف الصائغ) الذي عبر فيه عن هيمنة السياسة على الخطاب الثقافي، وهذا الرأي مختلف ومميزٌ :

- أن العراقيين يستجيبون الى المعطيات السياسية استجابة ملحوظة, وهم يشاركون في الاحداث السياسية ويناقشون اتجاهاتها بوعي لا يخلو من تمييز، ولهذا فأن اهتمامهم باي نشاط ثقافي او اجتماعي يتحدد غالبا بمقدار ارتباط هذا النشاط بالافكار والاحداث السياسية.  

- كانت السياسة سببا في شهرة عدد من الشعراء امثال (الزهاوي), و(الرصافي), و(الشبيبي), و(بحر العلوم), و(الجواهري). وقد كانت جرأة اي شاعر من هؤلاء في التصدي للقضايا السياسية تستأثر باهتمام الناس. وهذا الاهتمام يزداد مع اقتران موقف الشاعر بقوة الحدث السياسي, ومقدار ما يجلبه هذا الموقف من أذى للشاعر, ويتجلى هذا مع قدرة وموهبة الشاعر, ومزجها مع تجربته الذاتية, والمثال على ذلك قصيدة (أخي جعفر) للجواهري.   

ان ما طرحه (يوسف الصائغ) لا يشمل الشعراء وحدهم, وانما هو موقف عموم المثقفين, كما أن هذه الحالة تصور لنا المثقف العراقي, وكأنه يستغل الاحداث السياسية ويتخذها وسيلة لشهرته ِ! فالعديد من المثقفين والشعراء يقارعون السلطة على سبيل المثال, فهم مع كل حدث سياسي, ومقابل ذلك لهم قصائد مدحٍ ورثاءٍ لأقطاب السلطة ،كما هو الحال في العهد الملكي.

أن ولع العراقيين في السياسة عموما لا يتعلق بمفاهيم الاطر النظرية للسياسة، كما أن ولعهم لا يخرج عن آطر البحث عن الحاكم الصالح ، فنظرة المجتمع العراقي تدخل مدخل الناقد فهناك واع لا يمكن نكرانه ابداً، فهم يخوضون في تعريف الحاكم القادر على أدارة شؤون البلاد وتصريف أمورها وتلبية متطلبات العيش والسكن والمأكل والتعليم والمحافظة على المال العام فضلاً عن تقويم أفراد السلطة.

 وقد تختلف مستويات المناقشات السياسية ولكن يبقى جوهر هذه المناقشات واحدا فما تحمله المقالة الصحفية أو القصيدة أو الرواية أو المسرحية أزاء تصرف الحاكم لا يختلف عن مناقشة عمال (المسطر)، الذين يودعون الفجر الى ظهيرة اليوم من دون أن يحصلوا على عمل، فالسياسة عندهم هي الحاكم الصالح أو السلطة التي لا تسرق الشعب.

عرض مقالات: