اخر الاخبار

ينطوي الفيلم الوثائقي القصير “غايب، الحاضر الغائب” للمخرج قاسم عبد على حكاية لابد من سردها للقرّاء لأنها تسلّط الضوء على أهمية التوثيق في حياتنا الأدبية والفنيّة على وجه التحديد. ففي عام 1981 كان قاسم عبد طالبًا في معهد VGIK بموسكو، ولم يكن، في حينه، اقتناء آلة تصوير للمحترفين أمرًا شائعًا بين الطلاب. ونظرًا لشغفه بالسينما، وحبّه المفرط للتصوير اشترى كاميرا فرنسية مُستعملة من طراز بوليو 16 ملم، وأحبَّ أن يختبر جودتها بتصوير لقاء تجريبي لمدة عشر دقائق مع القاص والروائي غائب طعمة فرمان. وحينما غادر قاسم موسكو عام 1982 ترك الفيلم عند الفنان فؤاد الطائي، ولكنّ هذا الأخير يغادر أيضًا ويؤمِّن الشريط عند شخص آخر. وبعد قرابة 40 عامًا يتم العثور في موسكو على هذا الشريط وارسل في عام 2020 إلى صاحبه قاسم عبد المقيم في لندن حيث شاهد الفيلم بعين احترافية خبيرة وارتأى أن يقدّمه كشهادة بصرية أمينة لا تحتمل الرتوش.

يتضمّن هذا الفيلم الذي بلغت مدته 16 دقيقة مجموعة من الآراء والأفكار التي شكِّلت متنه السردي وأولها “أنّ الحياةَ شيء لا يُلَخص ولا يُروى” وأنّ الروائيين الكبار أنفسهم لم يستطيعوا أن يسردوا حكاياتهم بالطريقة التي عاشوها، فإمّا أن يضيفوا لها شيئًا أو يحذفوا منها أشياءَ مهمة جرّاء السهو والغفلة والنسيان، ويستشهد فرمان برواية”النخلة والجيران” التي لم يعبّر فيها عن حياته كاملة، وإنما عن لحظات معينة كان يعتقد أنها تمثّل الشكل الأمثل.

وعلى الرغم من قِصر مدة الفيلم إلا أنّ قاسم عبد يُحرّض فرمان على اجتراح المزيد من الأفكار العفوية التي تغص بها “النخلة والجيران”، وخصوصًا تلك التي تجري على لسان حمّادي العربنجي الذي يقول فيها “بأنّ الحياة مسيرة في درب طويل، وكلّما كان الإنسان شابًا كانت قدرته على السير أكبر، وكلّما تقدّم به الزمن قلّت مقدرته”.

يعتقد فرمان بوجود محطات رئيسة في حياته الإبداعية ومن بينها عمله الصحفي الذي أتاح له التفاعل مع القرّاء. فما إن يكتب مقالة حتى يتلقّى عددًا من الردود الإيجابية أو السلبية التي تُشعِره بأنه كاتب غير معزول ولا يكتب عن نفسه فقط.

لم يشعر فرمان بأنه راضٍ عن نفسه تمامًا مع أنه في زمن تصوير هذا اللقاء كان قد أنجز أربع روايات وهي “النخلة والجيران” و “خمسة أصوات”  “المخاض” و “القربان”، فضلاً عن أربع مجموعات قصصية تبدأ بـ “حصيد الرحى” وتنتهي بـ “آلام السيد معروف”، وتعد هذه الأعمال الأدبية بأنها ردّ فعل لشحنة عاطفية، ومادة ثرية زاخرة عاشها في حياته، ويسعى لأن يبذل قصارى جهده من أجل الإمساك بحكمة الشيوخ الباردة.

يلمّح فرمان في الفكرة الخامسة إلى رواية “المُرتجى والمؤجل” التي سوف تصدر عن “منشورات بابل” سنة 1986. ولكنه لا يشير صراحة إلى عنوانها المُرتقَب ، ولكنه ينوّه بأنها خالية من التزوير أو الخيال، وتنطوي على شيء من سيرته الذاتية، وطبيعة عمله كمترجم أيضًا.

يتوقف فرمان في الفكرة السادسة والأخيرة في الفيلم عند طقس محدّد دأب عليه منذ سنوات طوال، إذ أخذ يستيقظ في الساعة الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل ليبلوِّر أفكاره وهو يتأرجّح بين اليقظة والمنام، ويشرع في كتابة روايته الخامسة التي يحجِم عن ذكر اسمها الصريح لكنه ينوّه بأنّ عنوانها سيكون مأخوذًا من إحدى سونيتات شكسبير التي يقول فيها:” إذا ما الكدْحُ أعياني هرعتُ إلى سريري / تجد فيه أعضائي المُنهَكة بترحالها راحتها العزيزة / ولكن رحلة تبدأ عندها داخل رأسي / تُشغلُ الذهن بعد أن قضى الجسمُ شغله”.

لا ينسى المخرج الدؤوب قاسم عبد التنويه بالجهود الفنية التي بذلها الفنان التشكيلي فؤاد الطائي، والإعلامي سلام مسافر، والمترجم مصطفى هادي الذي تبنّى ترجمة الفيلم إلى الإنكَليزية، والفنان سيف صالح الذي صمّم بوستر الفيلم بشكل طوعي وأخرجهُ بهذه الحُلّة الجميلة.

جدير ذكره أنّ المخرج قاسم عبد قد أنجز العديد من الأفلام نذكر منها “وسط حقول الذرة الغريبة”، “ناجي العلي: فنان ذو رؤيا”، “حاجز سوردا”، “حياة ما بعد السقوط”، “أجنحة الروح”، “همس المدن” و “مرايا الشتات”.

عرض مقالات: