وجد نفسه وعلى غير تخطيط منه في رحلة على طريق بري طويل، جاء أمر نقله الوظيفي إلى ناحية قصية من البلاد.. جمعه سوء طالع أو صدفة عمياء برفيق سفر معتم المزاج، إذ يجلسان معا في مقعدين متجاورين في حافلة. عادة ما يكون السفر ثقيلاً، ويُلزم المسافرين باللجوء إلى ما يخفف عنهم وطأته، كقراءة في صحف منوعة يحرص سواق الحافلات على توفيرها للمسافرين، كعادة متبعة لتزجية الوقت.. طفق يقلّب صفحات الجريدة التي تناولها لكنه ما إن عمد إلى القراءة التي لم يطل به العهد حتى خلد رأسه وعموم بدنه إلى خدر ونعاس ثقيلين، فمال برأسه المثقل إثر ذلك إلى كتف جاره أكثر من مرة، ورب ضارة نافعة إذ علا صوت مدو أيقظه، ذلك صوت فرامل الحافلة وفز الآخرون ايضا لذات الصوت، لا بد من سبب طارئ وراء تلك الفرملة..
حمد المسافرون الله على نعمة السلامة ثم عادوا يغطون في الخدر الإجباري العميم ، إلاّ هو فقد أخلى النعاس في رأسه وبدنه محله لصحو مفرط.. كان كثير الحركة، والقلق بإئن على سلوكه المتقلب من حالة إلى أخرى. تارة يميط الستارة عن النافذة لينظر من خلالها إلى امتداد الشارع والى الفضاء الممتد ما وراءه.. وتارة ينزلها ليعود بنظره إلى فضاء الحافلة، وألتقت عيناه بعينيّ جاره اللصيق، فتبسم له وبادله تهنئة بالسلامة، فرد الجار على تهنئته بانفراج أبله من شفتيه.. لم يمهل نفسه فرصة لقراءة موقف جاره، او ليتورع ولو للحظة عن الانفتاح نحوه والاستطراد بالحديث بنهمٍ معه.. فخاطبه: ياصديقي قديما ً يقول المسافر لرفيق سفره: أتحملني أم أحملك ؟ والمعنى واضح كما أظنّ لديك.
الجار ينظر إليه بنظرات محايدة باردة لا حول له فيها ولا قوة.. فيردف عليه بلباقة خطيب مفوه وبعبارات جاهزة عن الدنيا وأحوالها، لم يترك للحكمة فرصة يتبصر خلالها ردة فعل جاره.. و أنقلب فوراً بصوته إلى نبرة تأكيد.. بينما ظل الجار هادئا ينظر بدهشة واستغراب، فأتم نبراته: تأكد يا صديقي إن العالم بأجمعه منضّد على هيئة سلاسل، كل شيء يخطر في بالك ماهو إلاّ حلقة في سلسلة كبيرة، فليس هناك ما هو منفرد في حاله. خمّن بما يعجبك من اختيار، وسنجد معا سلسلته التي تأويه، حتى تتأكد بذلك من صحة قولي أو من عدمها..
قل ما تشاء: كلمة أية كلمة، أسم أي أسم، شيئا أي شيء، صفة اية صفة، فالمرئيات أمامك مفتوحة ومتنوعة فاختر منها ما تريد، ودعنا نتسلق في مسارات الافتراض وننعش الذاكرة اليابسة في طرق البحث والتدبر.. جميل، أراك استجبت، شفتاك تنبسان بقولٍ ما..!! الرجاء أن ترفعه، فصوتك لم يصل إلى سمعي.. هدأ تماما وقطع كلامه وأصغى بتركيز ليسمع مفردة من لسان رفيق سفره، فجاءه صوته: صادماً: ئي ئي ئي، ئبه ئبه ئبه..
أخرس..
أنت أخرس..؟
يا لحماقتي!