اخر الاخبار

جالت أحلام بناظريها تتفحص كل ما يحيطها، سريرها، لوحاتها المعلقة على الجدار، التي لم تعد ترى فيها روحا، كل شيء من حولها فقد روحه، إلا صوت أنين يقرع صدرها، ظلت تنصت لذلك الانين حتى تلاشى تدريجيا كل شيء كي يعم الصمت من جديد وتنهمر الدموع على خديها…. ثمة قلب ما يزال ينبض على الرغم من أنه مثقل بالأغلال حتى أحست بتقويض أفراحها رويدا رويدا. اعتمدت في ضربات فرشاتها على تجسيد ما يدور في نفسها من أفكار تراوح بين الدهشة والوجع. في هذا الفضاء بحثت أحلام عن ذاتها تحاول تجسيده من جديد، كي تمسك بخيوط القمر، سابحة في عطر ليلكي. أرادت أن ترسم روحها وهي تمتطي صهيل الأيام الجائرة، بدأت برسم العينين اللتين ألهبهما الحنين الحارق لمنقذ ينتشلها من الواقع الذي تعيشه، ثم رسمت شفتين لهما صمت الدهاليز المقفلة، وطوق من زهور الياسمين يحيط بعنقها المرمري، توجت خصلات الشعر بأزهار التوليب، لتبق وحدها تعاقر وحدتها فتضيع ملامح الفرح من جديد، فهي كلما رسمت لوحة أغرقها التشظي، واختلطت ألوانها، وضاعت ملامحها. حينها أخذت عهدا على نفسها؛ بأن تقصي جميع تراتيل الالوان ولن ترسم لوحتها إلا بقلم الرصاص، تكتفي من تلك الألوان التي تشوش ملامحها. وبينما هي تخاتل الأحلام محاولة رأب الصدع الذي بينها وبين ذاك التشظي كي لا يلقي ظلاله عليها؛ تراقصت مزهرية تعانق الشمس كانت على حافة نافذتها، حين داعبتها ريح الصباح، ولتلك النافذة باب ملاصق يطل على شرفتها عن طريق تلك النافذة تتسرب خيوط ضوء طافحة بالانكسار، تحمل الأوهام والأحلام ولايكاد يبزغ فجرها حتى تتلاشى خيوطه وسط سحاب أسود يعم الآفاق. خطت بقلم الرصاص على بياض الورقة أول الملامح، أودية ودهاليز معتمة، خالية من دلالات الولوج إلى أمانيها، رسمت جسدا أجدبا متصحرا. وقبل أن تكمل لوحتها، جاءها نورس محلق من بعيد، يضرب بجناحيه على تلك النافذة . هو ذلك العابر بخيالها نحو اللاحدود، يسابق أحلامها. سلبها أنفاسها في لحظة غفلت عن سير الزمن، فهو كمن يقتفي أثر لحظة يرتئيها في ظل حلم، حتى سقط القلم من يدها، وهي تغرق في لجّة نظراته، تائهة بين اللا بين، تحملها أحلامها فوق جناحيه الأبيضين. طوت أهازيج الذاكرة، لتسدل الستار على لظى أيامها الغائبة، وتمتطي صهوة أمانيها، تحملها لهفتها نحو الشرفة . ترتعش ويمتلئ جسدها بانفاسه، تنهض بلا خطوات تحسبها نحوه وقبل أن تفتح النافذة لتدخله إلى غرفتها، حلق يرفرف بجناحيه غير بعيد. عصفت بها رغبتها في الرحيل المشتهى نحو توقها لفتح كل الأبواب الموصدة والسفر معه نحو البحار. ما يزال ذلك النورس يرفض المثول أمامها، ويأبى مغادرتها، ممسكا روحها بخيوط خفية، يسحب شهقات أنفاسها على مهل. عادت رغبتها من جديد أقلامها الملونة، هشمت قلم الرصاص ومزقت لوحتها الصامتة. أخذت تجوب الغرفة لتبحث عن الورق الذي ترسم به لوحتها الجديدة، كانت تناغي أصوات موسيقى وغناء ..وقفت في وسط الشرفة رأته يحدق فيها من الطرف المقابل ..نادته فأتى.. خاصرها..وأخذا يرقصان ويرقصان .. رقصت معها كل لوحاتها القديمة، لم تعد تلك اللوحات حزينة كما رسمتها، وها هي اليوم مثل زوربا تضحك وترقص، اااه ما أجمل الرقص معه. قررت أن ترسم رحلتها مع ذلك النورس على الشاطئ ، لتمزج بياض السحب بزرقة البحر، وتضع قلبها المرتعش نشوة مع نورسها في لوحة سحريّة. . شمّت رائحة البحر الذي كان يجمّل يومها وهي ترى نورسها يضرب الزبد بجناحيه، فيتطاير من حولها،.. لحظات وشمت لذتها في روحها .. ونضّدت متعتها في قلبها .. وقفت في ذلك المكان ترسم له وهو يحدق فيها، لا تعلم إن كان انتظارها سيطول في هذا المكان، لذا تقرأ تراتيل حبها له وتغني في صمت (( تعال راقصني من جديد يا أغلى من روحي .. لنبقى متفردين)) وهما يداعبان زرقة المياه. جلست وكلها زهو وهي تحمل فرشاتها وترسم ملامح خطاهما فوق الحصى والرمل على مدّ جرف البحر، ففي لعبة الحصى تنتشي النوارس المترعة بالحواس، لتحمل تلك الحصى وشم خطاهما فترتسم ظلالها فوق السماء لتمحو من ذاكرتها طفولة ممزقة، بصيص فرح لم يلبث طويلا. رسمت تبعثر الزبد المتطاير من ضربات جناحي نورسها، اقترب نحوها، قربت وجهها منه، نظرت في عينيه كمرآة ترى من خلالها حرائق لامست روحها، تملكها خوفا و اجبرها على التراجع نحو الخلف، اخترق بمنقاره الاحمر لوحتها، مزقها فضاعت ملامحها، لحظات دهشة وألم مرت قبل أن تغرقهما عاصفة يحملها موج البحر العاتي؛ وتغرق لوحتها وتتشظى الألوان من جديد، كانا يتابطان ذراعيهما حين انسحبت مع أحلامها إلى أعماق المجهول، وهي تستغيث بنورسها ليحملها منفردة به إلى البعيد. هي لا تعلم كم مضى من الوقت وهما يواجهان مصيرهما الغامض غير أنها انتبهت لذراعها الخاوية، وغيابه المجهول . فاستوت واقفة تهمّ بالمغادرة والرجوع نحو تفاصيلها التي طوتها خلفها وهي تسترجع تفاصيل الأحداث التي عاشتها هذا اليوم و طوال الزمن المتوقف خلف صدى الأيام. أحداث لا توجد إلا في خيالها وحده المسكون بكل تفاصيله منذ أن عكفت على رسم لوحتها الجديدة.

عرض مقالات: