وضعتها امها في الطشت، ويدها ترتجف، سكبت عليها الماء الدافئ فاقشعرت بشرتها الناعمة الطرية وارتعش جسمها الصغير سريعا من صدمة ملامسة الماء الاولى في البداية، وأخذ قلبها ينبض بشدة ودب نشاط في جسمها بعد شهقة سحبتها بصوتها الناعم وغمرها شعور بالفرحة والانتعاش من ملامسة جسدها للماء، كان عمرها خمس سنوات، تحب اللعب مع اخوتها الستة واطفال الجيران، تركض خلفهم وتحاول اللحاق بهم وتقليد حركاتهم فهي اصغرهم عمرا وهي اصغرهم حجما وتراهم كبار، يلعبون جميعا في الشارع الترابي المليئ بقذارات نفايات سكان منازل الصفيح.
يمتد الشارع امام البيت الذي ولدت فيه وتصطف بيوت الصفيح المتجاورة المتلاصقة على طول الطريق المليء بمياه الصرف الصحي الآسنة، وحين تهب الريح يتطاير الغبار الممزوج بشظايا وقصاصات بلاستيك اكياس التسوق المرمية والمتناثرة في الشارع وبمختلف الالوان: الخضراء، والصفراء، والحمراء، والبيضاء، والسوداء. وتتوافق الوان شظايا هذه القطع مع الرايات التي يثبتها سكان منازل الصفيح، في الشارع، على بيوتهم وعلى واجهاتها. فتشكل كلها كتلة تتنافر مع الوان الطريق السمراء المائلة للاسود القذر ومع واجهات منازل الصفيح الصدئة الملطخة بالطين، لم تعرف الالوان الا من هذه الاشياء ونادرا ماكانت ترى ثياب ملونة فاغلب الناس الذين تشاهدهم في محيطها يتشحون بالسواد. وفي احد الايام عندما سمعت اخوتها الاكبر منها الذين يزورون المدرسة، التي بناها اصحاب الحي خارج اطرافه، يتكلمون عن المعلم الذي تحدث لهم ووصف الوان الزهور، تصورت ان الوان الزهور هي الوان تلك الرايات على البيوت والوان شظايا وقطع نفايات اكياس البلاستك المتناثرة في الشارع.
لاول مرة تغسل لها امها في يوم ليس الخميس، ففي يوم الخميس تعد امهم الطشت لتغسلهم جميعا، ولكنها اليوم تغسلها لوحدها وبقية اخوتها يلعبون في الشارع.
قبل يوم زارهم ذلك الرجل وجلب معه اكياس فيها عناقيد مليئة بكرات صغيرة غامقة اللون عصارية حلوة المذاق، قالت امها انها عنب. حلوة الطعم طرية، طعمها يفوق وافضل بكثير من كسرات الخبز المحروق اليابس الذي تعطيه لها امها كل يوم. واعطى الرجل امها كيس بلاستيكي ملون فيه بدلة وردية تطرزها زهور من قماش ابيض خفيف. وقبل ان يذهب مد الرجل يده الى جيبه واعطاها قطعة مغلفة بورق ذهبي تلمع فيه حلوى سكرية. اخذت القطعة برغبة ممزوجة بخجل الاطفال واحكمت عليها قبضة يدها الصغيرة، فهي لم تر قبل ذلك مثل هذه الحلوى، فضغطت وقبضت عليها براحة يدها الصغيرة بقوة وكانها كنز حازت عليه.
رغبت في البقاء مدة اطول في طشت الماء ولكن سرعان ما اخرجتها امها بعد فرك جسمها بقطعة اسفنج مشبعة بالصابون، ثم سكبت عليها الماء مرة اخرى لازالة رغوة الصابون من على جسمها، بعدها دلكت امها جسمها بالمنشفة لتجفف الماء من على جسمها، جففت شعرها ومشطته، ثم البستها ملابس جميلة وفوقها البدلة الوردية المطرزة بالورود البيضاء، التي جاء بها الرجل يوم امس. كانت امها صامتة وعيونها مغرورقة بالدموع فتصورت ان الصابون قد احرق عيون امها. وفجأة ضمتها امها بقوة الى صدرها.
جاء عمها، والذي نادرا مايزورهم، مع الرجل الذي اعطاها الحلوى يصحبهم رجل عليه رداء اسود ويضع على رأسه لفة من قماش، على وجهه لحية تصل اعلى صدره.
في بيتهم حجرتان، حجرة امامية وحجرة خلفية ينامون فيها جميعا. جلس عمها والرجال في الحجرة الامامية وادخلتها امها الى الحجرة الخلفية. لم تفهم لماذا احتجزوها هنا في الغرفة الخلفية وبقية الاطفال ذهبوا، فكانت تريد اللحاق باخوتها واللعب معهم في الطريق خارج المنزل. سمعت الرجل الملتحي يتحدث بصوت عالي وكأنه يلقن شيئا لعمها وللرجل الاخر وبعدها تكلم عمها جملة قصيرة وكأنه يجيب الرجل وسمعت الرجل الذي اعطاها الحلوى ولكنها لم تفهم ما تعني الكلمات، ثم سمعت صوت الرجل الملتحي يودع الاخرين وصوت الباب الخارجي يفتح ثم يغلق.
دخل عمها الحجرة وأمر امها: جيبوها!
سحبتها امها برفق من يديها الى الحجرة الامامية، فرأت الرجل الذي اعطاها الحلوى وهو يستقبلها بابتسامة ترحيب غريبة لاتدل على مودة بريئة، جذبها عمها واخذ يدها من امها واعطاها الى الرجل الذي أمسك يديها وقبلها من خديها فلامس لعابه، الكريه المليئ برائحة التبغ المنفرة، بشرتها. شعرت بخوف وارتعبت ولم تدرك ماذا يجري، فهنا يتم تسليم يديها من شخص الى أخر، اختنقت عبراتها واخذت تبكي وادارت وجهها الى امها وعيونها تتسائل: ماذا يجري، لماذا تركتني؟ شاهدت دموع امها تسيل على وجهها واخذت امها تحاول مسح دموعها بظهر كفها الممسك بأوراق نقدية، و على دموع امها انعكست صورة والدها المتوفي من على جدار حجرة الصفيح، وظهرت عيونه تدمع.