اخر الاخبار

لي في رثاء صديقي الدكتور ضياء نافع المترجم والكاتب والأكاديمي والناشط الثقافي أكثر من حق. فهو شقيق ألم ممض. فقدْنا ولَديْنا. عرف ألمي، وسمعت صوت دموعه كما لو كنت أرثي ولدي الذي فقدته في عاصفة كراهية الإخوة الأعداء. كان يتماهى مع حزنه بفقد ولده. لكنه لم ينكسر. وأستحضر شخصيته إذ أستذكر وجوده بيننا قبل أن تبتلعنا حيتان الغربة، ونغرق في مياه النسيان والتشظي والشتات. حضور له وقع. أتمثل شخصيته بقوة ذلك الحضور، ولا أجد سبباً يجعلني أنصاع لسريدية الموت الثقيلة.

وإذ قدِم أستاذاً زائراً لجامعة صنعاء حيث كنت أعمل، تعددت لقاءاتنا، وكان صوته ينساب هادئاً رغم معاناته بين نارين : الرغبة في الهجرة وتمسكه بالعراق. يتمثل له في أسرته وأصدقائه وطلبته وكتبه ودراساته. في حاضره وماضيه متوَّجين بالزهو والخلق، وحاضره المعبأ بالشجن والجراح  والخسارات.

ثتيره المرائي في المكان ونحن معاً ويعبر عن جمالياته. لكن عينيه تقولان شيئاً آخر:

لهفةً  للعودة وحنيناً طاغياً للبلاد..

لقد  ترجل الدكتور ضياء نافع عن صهوة الحياة التي قادها في الغربة طويلاً. ولكن إرثه لن ينطوي. لأن له من مزايا الخلود ما يضمن له ذلك.

كانت شخصيته نموذجاً للعصامية والكفاح المتواصل والكد العلمي. تنوعت دراسته ليكون مؤهَّلاً للتعمق في حقل الأدب المقارن الذي بنا حاجة كبيرة له، لملامسة الأفق الإنساني وإرث البشرية. وكان الدكتور ضياء مؤهلاً ليسد فراغاً كبيراً في ذلك الحقل. فقد كانت دراسته ثنائية اللغة في روسيا وفرنساً انصرافاً للتعريف بالأدب الروسي. فعكف على رفد اهتمامه بما يغني ويضيء ويعمق المعرفة بنوادر ذلك الأدب شعرا ونثرا.

يعلم من عرف الدكتور ضياء مدى حسه الإنساني ورفعة خلقه وأمانته العلمية وتواضعه.

كنت حديث عهد بالعمل في إدارة تحرير مجلة «الأقلام» ببغداد ثم رئاسة تحريرها حين تعرفت على الدكتور ضياء شخصياً، بعد أن عرفته قارئا لدراساته وترجماته. شدَّني فيه بجانب تواضعه، تفَهّمه للحاجة إلى ما يترجم من أدب غربي للعربية استكمالاً لتلك القناعة بإنسانية الأدب. لم يذهب بعيداً في دراسات وترجمات هامشية، بل انصب جهده في التعريف بالتيارات الجديدة، مع اهتمامه المعروف بكلاسيكيات الأدب الروسي والأعمال المؤثرة في الشعر والسرد ومتابعاته لأحدث الإصدارات جعلته مواظباً على الحضور  في المجلة وغيرها من المطبوعات الثقافية ، ليعرّف القراء بها بلغة بسيطة التناول والفهم.

تيقنت عبر قراءة النصوص التي ينقلها للعربية، أن الترجمة المميزة هي التي تجعلك تقرأ مادتها وكأنّها مكتوبة أصلاً بلسان اللغة المترجَم إليها.

وليس غريباً أن توجد ثنائيات كثيرة في شخصيته. فهو اكاديمي خرج من قلاع المؤسسة الجامعية منذ عودته من الدراسة، ليستشرف فضاء الثقافة والأدب في الحراك الوطني خارجها. وهو كاتب عربي لكنه يقدم مثالاً فذاً لإنسانية الأدب وإحاطته بالآداب الأجنبية في بلدان لم نكن نعرف عن أدبها الكثير. وها هو يعمق الدرس المقارني بتأليفه كتابه المؤثر والمهم (ديستويفسكي وشكسبير) ليكون اطروحة عابرة للثقافات الروسية والأنجليزية والعربية التي ألف الكتاب بها. وله في المقارنات العابرة للثقافات آراء ضمتها كتبه ومقالاته، الجديرة بالتأمل والدراسة.. سيذكره طلابه والقراء والأدباء الذين اغتنوا بما ترجم لهم. وما قدم للغتنا العربية، بل للروسية أيضاً بما ألف من كتب كـ «معجم اللغة الروسية» وغيره.. سيظل شديد الحضور بيننا وأمثولةً لبقاء المبدع بما يترك من أثر، ومنتصراً على الغياب وقاهراً له.

عرض مقالات: