اخر الاخبار

من الملاحظ أن الطبعة الجديدة من رواية زينب فواز “غادة الزاهرة”، (دار نلسن وجمعية “نساء ذوات ثقافة مزدوجة”، بيروت) بالمقارنة مع الأولى، أسقطت من العنوان المعطوف عليه واكتفت بالمعطوف. وبين الطبعتين الأولى والأخيرة (حتى الآن)، كان ثمة أخريات، إذ صدرت الرواية في حياة صاحبتها مرات عدة، ووجدت طبعة منها تعود لعام 1903 في دار الكتب والوثائق القومية في القاهرة، وأصدرها المجلس الثقافي للبنان الجنوبي في عام 1984 في سلسلة التراث العاملي، وأصدرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب في عام 2013، ولن تكون الطبعة الأخيرة هي الخاتمة.

 إشكال الريادة

وإذا كانت مسألة الريادة الروائية العربية شغلت مؤرخي الأدب العربي، فتعددت آراؤهم فيها، واختلفت بين قائل إنها رواية “زينب” للمصري محمد حسين هيكل الصادرة في عام 1914، وقائل إنها رواية “وي... إذاً لست بإفرنجي” للبناني خليل أفندي الخوري الصادرة في عام 1860، وأعيد إصدارها في القاهرة في طبعة جديدة، وقائل برأي آخر، فإن صدور “غادة الزاهرة”، منذ قرن وربع قرن، وبالتحديد في عام 1899، يجعلنا نرجح أن تكون زينب فواز الروائية العربية الأولى، على ما تناهى إلينا من معلومات، حتى تاريخه.

وفواز أديبة لبنانية ولدت في بلدة تبنين من أعمال جبل عامل في عام 1844، وتنقلت بين الإسكندرية ودمشق والقاهرة، ودرست علوم العربية في عصرها على كبار الشيوخ، وكتبت في عدد من الصحف والمجلات المصرية، وتوزع نتاجها على الرواية والمسرحية والسيرة والترجمة والمقالة والقصيدة، فصدر لها في الأولى “حسن العواقب”، وفي الثانية “الهوى والوفاء”، وفي الثالثة “الجوهر النضيد في مآثر الملك عبدالحميد”، وفي الرابعة “الدر المنثور في طبقات ربات الخدور”، وفي الخامسة “الرسائل الزينبية”، وفي السادسة والأخيرة ديوان شعر يضم منظوماتها المختلفة، على سبيل المثال لا الحصر. ولعل هذا النتاج المعرفي المتنوع هو ما منحها مكانتها الأدبية، في النصف الثاني من القرن الـ19، على أن إقامتها المصرية، بمرحلتيها الاسكندرية والقاهرية، أتاحت لها البيئة المناسبة لتفتح استعداداتها الأدبية وإتيان ثمارها المرجوة.

 الخير والشر

بالعودة للرواية، تضع فواز روايتها في 37 فصلاً، يتراوح طول الفصل الواحد منها بين صفحتين اثنتين، في الحد الأدنى، كما نرى في الفصل الـ13، و17 صفحة ونصف صفحة، في الحد الأقصى، كما نرى في الفصل الـ36. وتدور أحداثها بين منطقتي جبل عامل وحوران، في ظل الحكم العثماني، في ستينيات القرن الـ19، وتتناول صراعاً بين أميرين محليين، يتحدران من الأسرة نفسها، يبدأ بالسلطة وينتهي بالمرأة، وينخرط فيه شخوص كثيرة وقبائل مختلفة، وتقوم فيه تحالفات عابرة، وتراق فيه دماء كثيرة، وينجلي عن انتصار الخير على الشر، في نهاية المطاف. وبذلك لا تشذ الرواية عن الثيمة التقليدية التي تشغل الرواية المترجمة والعربية، في تلك المرحلة التاريخية التي تقوم على الصراع بين الخير والشر، وتنتهي بانتصار الأول على الثاني، في محاولة للنهوض بدور تربوي / تعليمي، طبع البدايات الروائية العربية. وعليه فإن “غادة الزاهرة” ترصد الصراع المذكور ومجرياته، منذ بدايته حتى النهاية، وتتناول الشخوص المنخرطين فيه، والمعارك الدائرة في إطاره، والأدوات المستخدمة فيه، والنتائج المترتبة عليه.

يجري الصراع في منطقة جبل عامل اللبنانية، في ستينيات القرن الـ19، وتمتد بعض وقائعه إلى منطقة حوران السورية المجاورة. وتدور رحاه في ثلاث قرى متجاورة يقطن في كل منها فرع من الأسرة الحاكمة، والأسماء الروائية لهذه القرى هي: قرية الحصن، مركز حكم العائلة، الجابية القريبة منها، والزاهرة الواقعة إلى الشرق، ولعل تحديد موقع الأخيرة قرب نهر الليطاني يشكل قرينة لفظية يمكن الاستدلال منها على مسرح الأحداث. وفي هذا السياق، تبدأ الأحداث برغبة الأمير حامد في إسناد الحكم من بعده إلى شكيب، ابن أخيه أسعد، الذي يتوسم فيه الخير والكفاية، مخالفاً بذلك مبدأ العائلة في إسناد الحكم للأكبر، لا سيما أن  تامراً، ابن أخيه الآخر حسن، الذي ينطبق عليه المبدأ، يفتقر إلى أخلاقيات الحاكم المناسب، مما يثير حفيظة الأخير، فيزداد كرهه لابن عمه، ويروح يتربص به الدوائر، ويكيد له المكائد، مستعيناً ببطانة سيئة، لعله يتخلص منه، ويقبض على زمام الحكم، لكن الرياح تجري بما لا تشتهي سفينته. على أن الصراع الذي يبدأ على السلطة سرعان ما ينتقل إلى المرأة، فيدور حول فارعة ابنة عمهما ناصيف، الباذخة الجمال، المقيمة في الزاهرة.

من هنا، يشكل قيام تامر بخطفها رغماً عنها، والانتقال بها من مكان إلى آخر، في محاولة منه للحؤول دون اقترانها بشكيب، وهما المتحابان، مما يشكل انتهاكاً صارخاً لشرف الفتاة والعائلة، من جهة، وقيام شكيب باستنفار العائلة والأعوان للعثور عليها، وخوض المعارك من دون تحقيق غايته، والحفاظ على شرف الفتاة والعائلة، من جهة ثانية، المحور الذي تتمحور حوله أحداث الرواية. وفي حين يستخدم الأول أساليب المكر والخداع والكذب والحيلة وقطع الطرق وإطلاق النار ودس السم وحشد الأنصار وتأليب الخصوم وفبركة الأخبار ودس الدسائس لتحقيق مآربه الدنيئة، يلجأ الثاني إلى استخدام أساليب مشروعة من قبيل: البحث وتقصي الأخبار ومراقبة المكان وحشد الأنصار وإيفاد الرسل واستنفار الأعوان وخوض المعارك لتحرير حبيبته من براثن خاطفيها، ويكون لكل من الفريقين أدواته ومساعدوه. والمفارق أن أدوات تامر ومساعديه يشبهونه في النزوع إلى الشر وسوء الطوية وانتهاك القيم وارتكاب الموبقات، وأن أدوات شكيب ومساعديه يشبهونه في النزوع إلى الخير ورفع الظلم وإحقاق الحق.

في هذا السياق، يمكن تصنيف شخوص الرواية بين: محورية مثل شكيب وتامر وفارعة، ومساعدة مثل صادق ونجيب وطالب وجابر وشيوخ القبائل وغيرها. ففي الشخوص المحورية، تتمخض الأحداث عن نبل شكيب وشجاعته وجرأته وحنكته ورفعة أخلاقه ووفائه وقوته وضعفه في الحب، وعن دناءة تامر ووضاعته وانتهازيته وكذبه وجبنه وغدره، وعن شجاعة فارعة وجرأتها وصبرها وصلابتها وذكائها وقدرتها على مواجهة الصعاب. وفي الشخوص المساعدة، تتمخض الأحداث عن وفاء صادق وبعد نظره وحسن تدبيره وتفانيه في خدمة صديقه شكيب وتجشم الأخطار دونه وهو ما ينطبق بدرجة أو بأخرى، على الصديق الآخر نجيب، بينما يشكل طالب وجابر نموذجين للخسة والدناءة وارتكاب شتى الموبقات في مقابل الحصول على المال. ناهيك بشخوص مساعدة أخرى من الجنسين، لا يتسع المقام لذكرها.

روائية النص

وبعد إذا كانت زينب فواز أصدرت روايتها منذ قرن وربع القرن، فإن قراءتها بمعايير اليوم النقدية هي من الظلم بمكان، ومع هذا يمكن القول إننا إزاء نص على قدر كبير من الروائية، وإن كانت الحكائية تكاد تطغى عليه. تتمظهر الروائية في: كسر خطية الزمن في عدد من الفصول بحيث يعود اللاحق للسابق، في وقائع معينة، جاعلاً من هذه العودة فرصة للتذكير بها أو الانطلاق منها نحو وقائع جديدة. تعدد الأسلاك السردية بوتيرة سلك لكل من الشخوص المحورية وبعض السلبية، وكثيراً ما تصدر الكاتبة الفصل باسم الشخص المعني، وتحسن التصرف بالأسلاك المختلفة في إطار جدلية الظهور والاختفاء. تعدد الحبكات الروائية الفرعية في إطار الحبكة الرئيسة، وتعقدها كلما شارفت الحل، مما يضفي على النص الإثارة والتشويق. تنوع أنماط الكلام بين السرد والوصف والحوار والرسالة والشعر، وتحرك النص بين هذه الأنماط، وإن كان الأخير منها ينتقص من روائية الرواية. ناهيك بلغة روائية مقبولة تستخدم الجمل القصيرة والمتوسطة، وتراعي مقتضيات التوازن، لكنها مشوبة ببعض السجع ومثقلة ببعض الإنشائيات. وإذا ما قيض للنص التخفف من بعض الأثقال اللغوية، والتحرر من بعض الأنماط الكلامية، يمكن القول إنه على درجة متقدمة من الروائية بحيث ينتمي إلى القرن الـ20 وليس إلى القرن الـ19.

 أما الحكائية في “غادة الزاهرة” فتتمظهر في: العلاقة القدرية بين الوقائع التي لا تقل كثيراً عن السببية، فتكثر المصادفات غير المتوقعة التي تجمع في مكان معين بين طرفين لا يتوقع اجتماعهما فيه. كثرة المبالغات في التعبير عن الحدث (حشد الجيوش)، وفي التعبير عن العواطف (البكاء والتفجع)، وفي مخاطبة الحبيب. استخدام الشعر بكثرة على ألسنة الشخوص المحورية، فترتجل الأبيات العديدة للتعبير عن لحظة معينة، وهو ما يكثر في القصص الشعبي عند العرب. الإكثار من الالتفات ومخاطبة القارئ في الفصول المختلفة، وهو ما يفعله الحكواتي في المقاهي الشعبية، وإطلاق أسماء مختلقة على أماكن روائية وغيرها.

 وإذا كانت الحكائية تكاد تطغى على الروائية في “غادة الزاهرة”، فإن هذا الطغيان لا يحجب روائيتها التي تعتبر رائدة في عصرها، وتدخل صاحبتها تاريخ الرواية العربية من الباب الواسع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“اندبندنت عربية” – 29 آب 2024

عرض مقالات: