صار مألوفاً أن نقرأ بين الفينة والأخرى مؤاخذات توجه للنقد الأدبي من قبيل أنّه وصل إلى طريق مسدود أو أنه طفيلي يقتات على الأصلي، فلا بد من قلعه وتجنيب الأدب خطورته، أو أنه منغلق على نفسه حبيس الجدران ورهين لغته، فلم يخرج إلى العالمية وأنه هالك لا محالة وأن الحاجة انتفت إلى إحيائه وأن الذين يمارسونه أناس لم يؤدوا ما ينبغي عليهم تأديته، وأخفقوا في تأكيد دورهم الذي نجح السابقون من النقاد في تأديته؛ مع أنّ الزمان تغير، وصار يسيراً الذي كان يعد بالأمس عسيرا من ناحية الظفر بالمصادر ومتابعة الجديد منها.
وعادة ما تنمُّ مثل هذه المؤاخذات والتقولات عن نيّة مبيَّتة تريد النيل من النقد، متهمة إياه بالركود والشحة والإخفاق والنبذ، وهي تصدر عادة عن أناس يتباكون تحسراً وتحسفاً على النقد، مع أنهم لا يتعبون أنفسهم في التأشير على الايجابيات ورصد الهنات أو تقييد السلبيات. ومثل هذه المؤاخذات والادعاءات بكل ما فيها من التأنيب والتوبيخ ولفت النظر والازدراء قد تكون بنّاءة إنْ هي حملتْ حلولاً أو قدمتْ معالجاتٍ، وتبنت مقترحات تقوّم عمل الناقد وتطوّر النقد، وتخرجه من مزاعم الأفول والطريق المسدود واحتمالات الخيبة ولكن هيهات ذاك، ومن ثم يظل كلامهم جزافياً بلا معيارية وانطباعيا سائبا وهو أمر عفاه النقد الادبي منذ أن أصبح منهجياً وتعلمن وتعددت تخصصاته.
والسؤال: لماذا لا نستحثُّ -ـ بدل كل هذا التحسر والتوجع والمؤاخذة – همم النقاد لأن يحللوا ويدرسوا ويتزودوا بالنظريات ويثقفوا كتاباتهم بالمفاهيم والاجتراحات ؟ وتتبع هذا السؤال أسئلة أكثر إلحاحا وأهمية، مثل لماذا تعمل اتباعيتنا وعقدة النقص فينا على أعلاء شأن الناقد الغربي بينما لا نهتم بشأن الناقد العربي إلا إذا كان مقيماً في كنف الآخر الغربي أو دارساً على يديه ؟ ولمَ لا نستعيد زمناً كانت فيه لحضارتنا يد طولى على غيرها فنأتي بها إلى حاضرنا حية نابضة نستلهم منها ما يجدد فينا العالمية ويمنحنا العولمية الحقيقية التي عرفها أسلافنا قبل قرون خلت ؟ كيف لنا أن نتطور ونحن نُغرق حالنا في درك خيباتنا ولا نرتقي بفكرنا لنتأمل حالنا النقدي ونجد فيه بعض الأمل في صناعة جيل يمكن له أن يقاوم بالنقد فراغ الحياة واستهلاكيتها ويجابه الرداءة بكل معانيها ومجالاتها؟
إن ما يواجه النقد الأدبي اليوم من طعن وتسفيه وتحامل وتسطيح هو نفسه ما واجه جيل النقاد الرواد ومنهم طه حسين الذي دفعه تقوّل بعضهم على النقد الادبي إلى كتابة سلسلة مقالات في شكل محاورات افترضها تجري تخييلياً بين الناقد وقارئه، وموضوعها الشعر الجاهلي معنونا المقالات بـ( ساعة مع شاعر جاهلي) وتبدأ كل محاورة وقد قرأ القارئ قصيدة للبيد أو طرفة أو زهير فلم يفهم مقصد الشاعر ولا تذوق شعره ومن ثم لا يجد بداً من أن يسأل هذا القارئ الناقد عن السبب الذي يجعله لا يجد لذة في شعر الجاهليين مثل تلك التي يجدها حين يقرأ شعر المحدثين فيجيب الناقد اجابة فيها افادة للقارئ الذي صار يدرك جماليات لم يكن ليعرفها وحده.
وما يمرره طه حسين من أفكار في محاوراته الافتراضية هذه سببها هو أنّ الناقد كائن ليس له سلطان على القارئ سوى سلطته المعرفية فلا هو بالناهر ولا المنفر ولا الموبخ ولا المسفه ولا المؤاخذ، ولهذا كان طه حسين يكثر من استعمال عبارات المودة والاحترام التي بها يتقرب من قارئه، من قبيل مخاطبته بـ( يا سيدي/ اظنك تلاحظ يا سيدي / ولعلك توافقني / لا بأس عليك / وأنت يا سيدي مخطيء أشد الخطأ حين تظهر ما تظهر من الضجر / انظر معي الى هذه الصور../ اني قد اجملت واسرفت في الاجمال/ وأني قد تجنبت التفصيل / اظنك قد لاحظت هذا )
إن قوة النقد هي في براعة من يمارسه، والناقد متى ما كان على قدر المسؤولية الوظيفية، استطاع أن ينفع قراءه بعيدا عن التعقيد والتعصي والقصور والاكتفاء بالعرض والتلخيص فهذا ليس هو النقد الادبي. وما مشكلتنا في ممارسة النقد سوى أننا نعمم أحكامنا ونطلقها اطلاقا فضلا عن عدم مراعاتنا لاعتبارات تتعلق بمستويات القراء ومعايير العمل النقدي وتباين الوظائف النقدية التي تتغير بتغير الظروف والسياقات وتجدد الوسائل والأدوات فما لا يقنع الناقد اليوم كان بالأمس يقنعه، ومن يعمل بمنهجية واحدة سيعمل غدا بمنهجيات. والقصد هو الوقوف على مزيد من مواطن الجمال في النص واستخلاص أغراض شاملة تسمو بعمل الناقد سواء في تحليل الشعر أو السرد من دون أن ينسى العصر وطبيعة الفن.
وهذه هي لذة النقد، وهذه هي صعوبته معا، يقول طه حسين:” إن النقد صناعة ليست باللذيذة ولا المحببة إلى النفس فهي تكلِّف الناقد ضروبا من المكروه وألوانا من الألم قد كان يستطيع أن يستغني عنها لو صرفه الله عن هذه الصناعة ولكنها مع ذلك صناعة نافعة أو قل لازمة أو قل لا حياة للأدب بدونها ولا قوام له من غيرها” (حديث الاربعاء، ص643)
ولا ينبع الفعل النقدي إلا عن حاجة طبيعية بها يكون الحراك المعرفي حراً وإرادياً فيشحن دينامية الحياة بالعلمية والأدبية والفنية. وبخلاف ذلك لا نفع في النقد ولا خير فيه.
وما تمنى طه حسين حصوله هو وجود الناقد الباحث الدارس الذي يجعل الناس يفهمون النقد على حقيقته وليس كما يشاع عنه بفهمين متناقضين تناقضاً شديداً وكلاهما خاطيء سيء الأثر” فمنهم من يفهم من النقد حمداً خالصاً وثناءً طيباً وتقريظاً من غير تحفظ والنقد عند هؤلاء ضرب من المدح يقصد منه ترويج الكتاب.. ومنهم من يفهم النقد على انه طعن وقدح وتجريح ودلالة على السيئات.. وفي الحق أن الصلة بين النقاد والمؤلفين دقيقة بطبعها لا تخلو من الحرج.. ولكن شيئاً ينقصنا مع هذا وهو أن نقدر العلم حق قدره ونؤمن بأن لا قوام للعلم بغير النقد ولا اكاد أفهم أن رجلا يستحق أن يوصف بأنه عالم أو أديب أو من طلاب العلم والادب إذا لم يكن يقدِّر النقد وحاجة العلم والأدب إليه” (حديث الاربعاء، ص649).
ولا ناقد أدبيا سوى من كان حراً طليقاً في توظيف أدواته وانتقاء نصوصه والتأشير عليها مقترباً بالحرية من الحقيقة التي هي بغية النقد ومطلبه. وهي ليست بدعة ولا ضرباً من ضروب التقويم والمجاملة والتربية الاجتماعية والسياسية فذلك ما لا تحتمله صناعة النقد ولا ترتضيه، لا في زمن طه حسين، ولا في زمن ادوارد سعيد، ولا في زمننا الذي فيه الناقد ما زال له سلطان لكن من دون أن يحمل الصولجان، بل سلطانه في معرفته بحياة الأدب وروحها ومظاهرها. وبالنقد وحده يتمكن من إزالة الجهل والعتمة والضعف والإسفاف، مؤشرا على مواطن الجمال التي فيها القوة والنماء.