أزعم إن فهم اللحظة الراهنة هو مفتاح كلّ نجاح، لذا يجب أن نعي مكاننا الآن في التاريخ.. واليومي، نعي ذواتنا.. لأنّ العالم المتحضر مع ملاحظة أنني أقف عند كلمة (متحضر) كثيراً، وأتمنى أن تكّون العالم المتقدم تكنولوجيا فقط.. لأن التحضر مفهوم أوسع قد لا يكون توصيفاً دقيقا لهذا العالم الذي نعيش تداعياته الآن. هذا العالم يتجه إلى العلم بعنف, بينما نجد توجهات عنيفة هنا نحو ممارسات وتجاوزات على القوانين وهذا التوجه يناقض ما نتوجه له. إن مسألة الاختلاف والتباين بين العالم المتحضر والوضع في بلادنا يعود إلى تغيرات وتحولات هائلة حدثت عندهم، كعولمة رأس المال وتطور الاتصالات العالمية وغيرها من ظروف انتجت “عصر الذكاء الاصطناعي” الذي بدوره قام بتغذية وإنعاش الصراعات القديمة والتنافسات الدينية وإلغاء قوانين الحرية وغيرها –هنا في مجتمعنا- حيث أنتج قوة دافعة لأشكال جديدة من “الهوية الوطنية” إلا أن هذه “الهوية” قائمة على المصلحة السياسية والأيديولوجية. وهذا يذكرني بالأحداث السياسية التي مرت على العراق وكيف أنها كشفت عن الارتباطات الحقيقية للمجتمع, إذ كان الانتماء الديني، الذي عاد إلى الظهور كمحدد رئيس للهوية الجماعية – التي تطلق على مجموعات من الناس كانوا يعيشون في منطقة واحدة تحت سلطة استعمارية، ولديهم تاريخ استعماري مشترك واحد لمئات من السنين، ولكنهم ينتمون إلى ديانات ولغات وثقافات وتقاليد وأعراق مختلفة، واختاروا الوقوف مع بعضهم البعض لتحقيق مرحلة جديدة أفضل من الحرية والاستقلال- ولكن ما إن تحقق ذلك حتى بدأت مشكلات الانسجام الوطني والمجتمعي تطفو على السطح. وحتى في الأماكن التي تم فيها حل هذه القضايا، بدأت الأصوليات الدينية والسياسية تزدهر.
ولكي نفهم تأثير هذه القوى على “العولمة والذكاء الاصطناعي”، فلابد من أن نولي اهتماماً أكبر للصعوبات المرتبطة بتعريف “الهوية الوطنية”. لأن العناصر الأساسية للهوية الوطنية “العرق واللغة والدين والتاريخ والتقاليد”ـ كانت دوماً مكونات أساسية ولكنها غير متساوية في تشكيلها.
لقد كان من المتوقع أن يكون للعراق الجديد كيانات متجانسة ذات ثقافة مشتركة. ولكن الواقع بدا مختلفاً، إذ كان الرجوع إلى الماضي لاستحضار الهوية نوعاً من العزاء في مواجهة المهيمن المتصور، إذ لجأت الثقافات الفرعية إلى الولاءات العرقية أو الدينية للحفاظ على نفسها من الالتهام من قبل ثقافة الأغلبية. وبهذا يتحرك “مفهوم المواطنة” بشكل مباشر بالأصل القومي أو الانتماء الديني. وهو ما يأخذنا إلى عالم ما بعد الحداثة حيث المزيج بين المنطق الاجتماعي والقوى الاقتصادية، التي غالباً ما تكون مدفوعة ومستفيدة من التقدم في تكنولوجيا الاتصالات والذكاء الاصطناعي التي أدت إلى ظهور الاعتراض الحالي, فتراهم لا يتبنون منطقها على الإطلاق, لأنها ببساطة إجراء من تدابير الراحة والحصول على بعض مصالحهم الاقتصادية لا أكثر. ومن هنا فإن هذا يجسد تكتيكاً للبقاء في ظل هيمنة “التشابه” التي فرضتها ضرورة المشاركة العامة في الممارسات اليومية للعالم المتحضر.
دورنا كمثقفين بذل الكثير من الجهد والتحليل لفك التعقيدات التي تكتنف العلاقات بين مختلف الاقليات والمكونات الدينية والحوار حول الاختلاف في التمايز الثقافي ـ وليس التجانس. كي يتمكن كل فرد من الانتماء إلى ثقافات عديدة، وأن يكون للناس هويات ثقافية متعددة.
وبهذا المعنى فإن الهوية تكون دائماً في طور البناء والتشكّل المستمر. وإذا ما تم قبول “التهجين الثقافي” بوصفه مكوناً متأصلاً للهوية الوطنية، فإن هذا يعني أن أي شكل من أشكال اللحاق بالعالم المتحضر لا يمكن قبوله إلا بوصفه انعكاسا لمرحلة انتقالية محددة في حياة أي مجتمع.
ومع تزايد وعي المجتمع العراقي بجذوره الدينية، فمن المرجح أن يجد الأشكال والمعايير التي تمثل هذه الهويات الفرعية المختلفة على الرغم من قدرة التعامل مع مجتمعاتنا الدينية المتنوعة ما يزال أمراً غير مؤكد. ولكن هناك أمر واحد مؤكد وهو أن بها حاجة إلى تطوير ثقافة سياسية جديدة وتعبيرات مكانية متناسبة تتجاوز شعارات التقليد والإحياء الديني ومعاداة الحداثة. تلك التي تعد حداثة بديلة جديدة ومختلفة, إذ أننا نشهد تراجعاً نحو التقليدية من دون التخلي عن المقدمات الأساسية للحداثةــ تراجع إلى نوع من “الحداثة القروسطية” التي تتعامل مع المعايير الجديدة للبقاء في عالم متغير ومعولم باستمرار.