من أيام لهيب الإضرابات والمعارك الطلابية عامي 67 و68 من القرن الماضي، حتى أيام الشجاعة والعناد في مقاومة المرض الخبيث اللعين.. وبين هذين المَعلمين كانت هناك، في حياة يحيى علوان، الصديق والرفيق، محطات كثيرة، مفعمة بالتحديات والمرارات والآمال، امتدت عبر ما يزيد على نصف قرن من الأحداث العاصفة التي هزت العراق.
جمعتني مع يحيى أيام وسنوات قد يصعب علي أن أضيء تفاصيلها. فقد كنا على هتاف واحد في عنفوان الحركة الطلابية أواخر الستينيات، أيام كنا، نحن الاثنين، في جامعة بغداد ندرس الأدب الانجليزي. وكان يحيى، يومئذ، من الناشطين البارزين في هذه الحركة، وإن كان، كما هو حاله في معظم سنوات حياته، يعمل، بدأب ونكران ذات، خلف الكواليس.
وكانت المحطة الثانية التي عرفت فيها يحيى عن قرب هي سنوات السبعينيات، حيث عملنا معا في صحيفة “طريق الشعب”. كان يحيى محررا للصفحة الأولى، وكنت ألتقيه مساء عندما أكون في مطبعة دار الرواد للمساهمة في متابعة إصدار الصحيفة. وكانت لنا لقاءات غير تلك التي شهدتها دار الرواد، وأجواء المرح التي كان يشيعها كثر ممن عملوا في الصحيفة والدار، وبينهم أبناء مربينا وأستاذنا الجليل الراحل حسن العتابي، الذين كانوا عماد القسم الفني للصحيفة، وأخص منهم بالذكر الشهيد سامي العتابي.
وفي تلك السنوات كان يحيى من كوادر الحزب في الميدان الثقافي، حيث عمل في اللجنة المحلية للمثقفين (كانت تحمل اسم لجنة عادل). وكان ممن مارسوا دورا مؤثرا في نشاط الحزب في أوساط المثقفين.
أما المحطة الثالثة الأكثر تميزا فكانت سنوات الحركة الأنصارية في ثمانينيات القرن الماضي، حيث عملنا معا في إعلام الحزب، وعشنا سنوات في غرفة طينية صغيرة، شهدت ما شهدت من حوارات وجدالات في القضايا السياسية، وفي قضايا الثقافة وجماليات الأدب والفن.
في تلك السنوات كانت ليحيى، كما لكل واحد منا نحن الأنصار، قصصه العجيبة التي قد يصعب على آخرين تصديقها. ففي تجارب الوصول إلى كردستان وفي تجارب الانسحاب منها بعد هجوم الدكتاتورية بأسلحتها الكيمياوية، قصص تبدو بلا نهاية، ومآثر تبدو بلا نظير.
كانت أياما مليئة بما هو جدير بالتذكر والكتابة، وهو ما فعله يحيى بروح صادقة منصفة، ولغة شفافة، وصور أدبية تنبض بالسمات الجمالية، وبثقافة وخبرة كاتبها.
وفي هذا السياق أجد نفسي راغبا في الاشارة، ولو على عجل، الى تلك النشاطات الثقافية، الفكرية والمسرحية والتشكيلية وسواها، التي كان ينظمها الأنصار في المواقع المختلفة في كردستان. وفي موقع (سفّين) الذي كنا فيه (وهو موقع الإعلام) كانت مثل هذه النشاطات دؤوبة، وكانت الأماسي تستقطب، أيضا، رفيقات ورفاقا من المواقع الأنصارية القريبة.
أتذكر، الآن، من بين فعاليات ثقافية كثيرة، تلك الفعالية التي قدمها الرفيق أبو علياء، الذي وصفه البعض، حباً، بـ”البطران”. فقد استمزج رأيي في أن يقدم أمسية في الموسيقى الكلاسيكية، فتحمست لمشروعه، واتفقنا على أن ينظم لنا جلسة استماع للسمفونية السادسة (الرعوية) لبيتهوفن. وكانت أماسينا في موقع الإعلام تقام، عادة، في الغرفة الطينية الكبيرة (كنت أمازحه بالقول إنك ستقدم السمفونية الرعوية في دار أوبرا فيينا!). كان هناك جهاز التسجيل الذي كنا نستخدمه في إذاعة (صوت الشعب العراقي)، ومجموعة من كاسيتات الموسيقى الكلاسيكية التي تبثها الإذاعة في الفواصل. غير أن الطريف في الأمر أن مهندسي الإذاعة ابتكروا طريقة لنصب مكبرات صوت في “قاعة أوبرا فيينا”، إذ جاءوا بعلب دهن فارغة وربطوها بأسلاك كهربائية وعلقوها في أعلى جدران الغرفة، فكانت تجربة فريدة في تكبير الصوت. ولم يكن ذلك غريبا في حياة الأنصار، فمن عاش تلك السنوات يعرف أن هناك “ابتكارات” عجيبة. وكان أن تحدث يحيى عن بيتهوفن وسمفونيته السادسة، مقدما شرحا وتحليلا لحركاتها، قبل أن يستمع جمهور النصيرات والأنصار، بإصغاء واستمتاع، لـ “الرعوية”.
أليس خيالا أن تستمتع كتائب من نصيرات وأنصار الحزب الشيوعي الى الموسيقى الكلاسيكية في جبال كردستان القصية والعصية، وفي ظل مخاطر مواجهة قوات الدكتاتورية الفاشية !؟ كانت تلك واحدة من مآثر يحيى علوان !
كانت ليحيى، شأن آخرين ممن ساهموا، بشرف، في الحركة الأنصارية مرارات، عبر عنها بطريقة متوازنة تتسم بالشعور بالمسؤولية، مميزا نفسه عن بعض “الرفاق” الذين قادهم جزعهم الى فقدان التوازن في الموقف من تاريخهم والتنكر لمآثر الشيوعيين.
ووجد يحيى، خلال سنوات مغتربه بألمانيا، في التسعينيات وما تلاها، فرصة أفضل لإنجاز مشاريعه التي يبدو أنها كانت مؤجلة لأسباب عديدة بينها انغماره في النشاط السياسي والصحفي والأنصاري. وبوسعنا أن نشير، في هذا السياق، الى كتابيه (الجنة لا تسبح ضد التيار) – 2003، و(تقاسيم على وطن منفرد) – 2012، وترجماته: (المشط العاج – رواية فيتنامية) صادرة عام 1969، و(الفاشية التابعة – نصوص ألمانية) – صادر عام 1984، و(حوارات المنفيين) لبرتولد بريخت – 2002، و(أيها القناع الصغير أعرفك جيدا) – 2005 للكاتب الغواتيمالي أوغستو مونتيروسو.
أما كتابه الأخير الموسوم (مطارد بين ... والحدود)، الصادر عن دار الفارابي عام 2018، فقد كان كتاب سيرة لحياته وتجربته وحياة وتجربة الأنصار وحركتهم. وفي هذا الكتاب وصف رحلة مغادرته كردستان الشاقة بـ “رحلة الضنى”، وقد كانت كذلك حقا.
ظل يحيى بعيدا عن الشعور بالندم على تجربته المريرة والغنية في الحركة الأنصارية والحزب. وقد كتب عن ذلك في (مطارد بين ... والحدود) قائلا: “هي، بالتالي، ليست كتابة نادمة على ما فات، بل نصوص مفتوحة، صببت فيها شيئا من نزف الروح، وما جف من حبال الحنجرة.. عصارة ما جنيته من خبرة حياتية متواضعة، أصبت فيها حينا وأخطأت أحيانا.. لا هي رواية ولا هي قصة ولا هي نص علمي ... بل هي نصوص أدبية تعرض لجانب فقط من تجربة شخصية لا تنفي غيرها”.
وربما كان تواضع يحيى وعزلته الاختيارية في العقود الأخيرة من حياته، وعدم لهاثه وراء حب الظهور والامتيازات، أثر بعيد في حرمانه من إضاءة النقاد لإنجازاته، إذ لم يكتب عنه سوى القليل. ولعل من بين ما أنصفه تلك الحلقة من برنامج (روافد) الذي كان يعده ويخرجه ويقدمه الصحفي أحمد علي الزين، وقد بثت على قناة (العربية) عام 2020، والمقالات التي كتبها الراحل الدكتور كاظم حبيب عن تجربة يحيى وإنجازاته.
ظل الرجاء متقدا.. ظلت المعاناة مريرة.. وظل يحيى مقاوما الأوجاع ومتشبثا بالأمل حتى لحظاته الأخيرة. وكانت آخر تجليات هذا الأمل أن نسمع صوته قبل ثلاثة أسابيع من رحيله وهو يجادل في حلقة من حلقات منبر (حوار التنوير)، الذي كان يحرص على حضور فعالياته والإسهام فيها على الرغم من معاناته من مرضه العضال.
كثر هم الذين يعرفون المثال الملهم الذي قدمه يحيى علوان طيلة عقود من حياته المفعمة بالألم والتحدي..
كان يحيى على حق عندما تشبث بالأمل .. صحيح أنه رحل، لكن هذا الأمل، الذي ظل رفيقه، هو الذي منحه الطاقة على مقاومة المأساة واجتراح المأثرة.. وحتى في لحظات اليأس كانت هناك جمرة تحت الرماد، وكان يحيى يعرف أن هذه الجمرة لن تخبو ..