من عظمة الفن أنه لا يستحي من الواقع، ولا يخشاه، ولذلك يمعن الفنانون في تعرية الواقع والكشف عن صوره المحتجبة وراء الظواهر المعيشة. السيرك ليس مجرد لعبة جماهيرية يعمل فيه الإنسان والحيوان، إنّما هو تكوين حركي يجمع بين الأقنعة التي تغرّب الواقع، والحضور الذي يمثل الواقع، بما فيه الحيوانات التي ما أن تحمل أسماء حتى تتأنسن، فالإنسان لا يعيش وحده، يعيش بمعية أشيائه أيضًا، فتشملها ما يشمله؛ السيرك نوع من ألعاب الحياة الجماعية، التي تتمظهر أشكالها بطرق المشاركة الجماعية، لتعيد لنا بعض الخيالات المنزوية في الذاكرة، أو تمرر عبر الحركة والجسد أفعالًا غائرة في الذاكرة، ثمة مواقف كاريكاتورية تستبطن التراجيديا عندما يقدمها السيرك. فهو معني كفن بتقديم الغرابة حين يغيّر ملامح الشخصيات ويرسم أفقًا تمثيليًا غرائبيًا لأفكارها، ولذلك يعد واحدا من فنون الحياة التي تمتهن الشطب على الوقائع القديمة، وتؤكد ظاهرة المعاصرة عبر الأقنعة. إنَّ حياتنا التي شطب عليها الزمن مرارًا وتكرارًا لا يمكن أن تلغى كلية، لابد من اثر تتركه، يمثل “الوجود” القديم لها، السيرك يُظهر ما هو مختزن في ظاهرة الأشياء عبر تغريبها، ومع ذلك تبقى تلك الحياة مقروءة، وغير قابلة للشطب أو المحو، وأنّها تعاد كلما تهيأت لها ظروف القراءة. هذا العرض الاستثنائي لمسرحية “السيرك” تأليف وإخراج د. جواد الأسدي، يعتمد على شخصيات سبق أن عاشت تجربة حية ومتشابكة، لكنها الآن مغتربة عن واقعها السابق محاولة منها أن تعيد تلك الصورة المأساوية التي انتهت إليها حياتهم: صورة المحو والشطب التي مورست من قبل قوى غامضة ضدهم. هو قراءة لماضي هذه الشخصيات الثلاثة ورابعهم كلبهم، يستعير المخرج/المؤلف من خلالهم أسطورة كهف أفلاطون كأرضية ميثولوجية للعرض، ليرينا أن ما ينعكس على الجدران التي شكلت ديكورًا محاطًا بأشجار منزوعة الحياة، ليس إلا خيال الشخصيات المشطوبة في الحاضر، أما ماضيها فسيروى عبر ظلال وانعكاسات النور والكلام: النص المركب رواية مرنة تعرض بأشكال تجسيدية يكون الجسد فيها فاعلًا، وهكذا شارك الغناء والصراخ والصخب والموسيقى والنباح والضوضاء والصمت بنية اللوحة الدرامية المفعمة بحياة آفلة لم يبق منها إلا شخصيات تحاول إعادة تشكيل نفسها عبر مرآة السيرك . فالمشطوب لا يلغى كليًا، كما لا يعود كاملا كليا، لذلك يعامل كأثر، لأنه يقرأ من وراء خطوط الشطب، قراءات متقطعة، ولا يظهر ثانية إلا لغة من خلال فعل يُجسد الكيفية التي جرى فيها امحاء الشخصيات، ليبق ما في أعماقهم صاخبًا. مرة أخرى نستعير إرادة القوة من نيتشه التي رافقت الإنسان حتى لو شطب من الوجود الظاهر. أنه هناك يمارس دورا في “الوجود” وأن هذا الإنسان سيعيد عبر الذاكرة نشيده الذي انقطع: أربع شخصيات مركبة من حيوات متناقضة سحقتهم التجارب، ( شذى سالم، بدور كاميليا، المرأة المزدوجة الحضور: الفاعلة عبر رسم مخيلة للروائي أحمد شرجي بدور لبيد، الذي قدم جزءاً من سيرته كمؤلف، وعلاء قحطان، بدور ريمون الزوج والكائن المهزوز القلق، والشخصية الأكثر غنى بالمخفيات، والكلب دودو الذي أصبح رمزًا للضحية وهو يحمي بيت اللعبة) بهذه الاضمامة من الشخصيات المركزة يعيد علينا المؤلف / المخرج جواد الأسدي، لعبة السيرك الاجتماعية عبر مشاهد/ كلامية مجسدة، وهم يعرضون ما وصلوا إليه من أوضاع تبدو أنّها الصورة المتراكمة عن حياة غامضة لممثلين في سيرك شطب عليه الزمن، وكاد أن يمحوهم لولا أنَّ اللعبة نفسها قادرة على إعادة بناء نفسها من بقايا أحجارها القديمة. يلخص العرض الدرامي: أن ما نفعله يفي الحاضر ويعيد تشكيل ما تهدم، ولكنه يبقى ناقصا، فالمخرج يستعير ذاكرة الطفل وهو يشيّد بيتًا من بقايا تجارب كادت أن تفلت وتضيع في زحمة الحياة اليومية، فشكلت إعادتها تكوينًا تمثيليًا لظاهرة “الوجود هنا”، ولسان حالهم يقول: مستحيل أن يُشطَّب كل ما فعلناه ما دمنا نمثل، وحكايتنا هي أنَّنا جزء من لعبة سيرك تحرك المجتمع كله، ولكن هذه المرة لعبة يشترك فيها الجمهور، فأنتم أيضًا -أيها المشاهدون- ثمة من لاعبكم وسيلاعبكم بخيوط لا ترونها، أنتم ممثلون مثلنا في سيرك الحياة اليومية، ولكنكم متقاعدون الآن حين جعلوا منكم السيرك كائنات مشطوبة أيضًا ، فهم وحدهم من يمسك خيوط اللعبة، فكان بعضكم ضحيةً أو قاتلًا، مادام قد خرّبوا أعشاشكم وباضوا بها، فكل النتائج نتائج تصب في سلتهم، فالفن لا يعالج إلا الأوضاع التي تشرف على النهايات، أو تلك التي تكون أو ما أسميته دراما “نصف حياة – نصف موت” وها أنتم أيها الجمهور تبلغون متوسط النهايات، حاملين أكفانكم راياتٍ مهاجرةً، كي يعيدها المسرح عليكم حكاية من حكايات الف ليلية وليلة. هذه الشخصيات التي تتقاسم خشبة المسرح كما لو كان بيتهم الرحمي الذاتي، يشعروننا بأحاسيسهم أنهم نحن، فهم يواجهون مباشرة ويخاطبوننا بألسنتنا التي نعرفها، وأن الدراما التي يمثلونها هي حياتنا المشتركة بين واقع معلق بخيوط متحركة، وأرض مرآوية يمكن أن نسقط عليها. مما يعني أنّ الفضاء الداخلي للمأساة يؤسس فضاء عموميًا للمشاهدين أيضًا، هنا داخل هذه القاعة الصغيرة الممتلئة بهم، أوهناك خارج المسرح الذي يمتلئ بحياتكم.
الفن يقظة كونية وليس لغة تستخدم لليقظة، إنَّه فعل محرك، وعليه أن ينفذ بطاقة أدائية شعرية يمتزج فيها باطن الشخصيات بفضائها المكاني وهو ما جسده الممثلون بطريقة فنية مركبة، أشعرنا المخرج ، والممثلون أنهم يعيشون فضاء حميميا فبدوا كاسرة يروون للجمهور انكساراتهم: هكذا بدأ العرض علاء قحطان واحمد شرجي، يتناوبان على سردية مركبة مع الماضي، سردية عن شخص ثالث مشترك هو المرأة : شذى سالم (كاميليا) وعن الكلب دودو، الذي كان بطلًا، وينتهي العرض بلقاء دموي، وبمفارقات جسدية، وبفضاء حميمي مؤلم، وبستار أحمر يغطي المرأة، بينما كان الوسط مشحونا بتفاعل النقائض، حيث نجد الوضع الدرامي ينقلب من كونه مسرحية تعرض إلى قصيدة تنشد، هذا النوع من العروض نادرًا ما يشرك كل الابعاد، حيث يتشكل هناك في الجذور، وما الممثلون إلا فواعل لعرض هذا الزمن المركب. ثمة مخرج يعيد تركيب الصور المشطوبة للظهور ضمن جدلية الحضور/الغياب، وممثلين يجيدون اظهار ما في داخلهم بحركات تجسد معاناة جماعية، وجمهور شعر أنه يرى دراما حياته، بل حكاية العمق الوجودي لكائنات جرى عليها شطب قسري، حيث العدد (أربعة اشخاص) يمثل مربعًا لدائرة أرضية يجري عليه الفن كما يقول هايدغر، الالتصاق بالأرض مهما حلقت بخيوط السيرك ستهبط ثانية عليها لتروي كيف أديت الدور بإتقان، الزمن الدائري أحد التكوينات الدرامية التي لا تنتهي إلى نهايات، بل يبقى السيرك مفتوحًا ويبقى الكلب حارسًا، وتبقى الشخصيات في دوامة دائرة الوجود، لاعبة، تعلو وتهبط بخيوط تدار في فضاء المسرح.، الكل يحكي، والكل يسرد، والكل محبط، والكل فاقد، والكل يشاهد الكل، وكأننا في لعبة نزعنا جميع ثيابنا فيها، وتعرينا بمواجهة مصير مجهول. وما من خلاص حين ابلغتنا المسرحية أن نهايتها استمرار يقظة الكلام.
كينونة علاء قحطان (ريمون) اشتغال فيما لا يمكن تصوره من العمل المذل والمشين، وكينونة احمد شرجي (لبيد) سرد لسيرة مؤلف لم تعد رواياته كما تصورها مهمة، وكينونة شذى سالم (كاميليا) كما لو كانت في قدر ساخن حين روت معاناتها المريرة مع زوج وصديق، كل شيء في هذا العرض تمت صناعته في الرؤية التكوينية لمجموعة من البشر فقدوا كما يقول النص: الذكورة، والشجاعة، والشرف، وما عاد بإمكانهم أن يمارسوا حتى الشعور بكلمة “حب” كي تكتمل الدائرة الانطولوجية لإنتاج أبنا ء لفضاء السيرك، في آخر العرض تلتف كاميليا برداء سيرك أحمر، وكأنها تعاود ممارسة لعبة تقطعت خيوطها ، لعبة معلقة في الفضاء. هذه الصياغات الجمالية المتفاوتة الحضور امتلأت بها خشبة مسرح فقير إلا من مصطبة يعلو صوتها كجزء من انفعالات الذات وهي تروي حكايتها أيضا وكقاعدة أرضية استوعبت عنف الشخصيات وانفعالاتهم، وعكس تضاريس زمن شامل سحق الجميع، فبدت الحياة مهملة ككتابات مشطوبة على جدار زمني. أمّا المسطبة فكانت ممرًا وحاجزًا ممتلئة بالحركة، كتابًا دون عليه الجميع شخصياتهم، كانت وجودًا أرضيا لكينونتهم، ولذلك نالت منهم ما نالت. لتصبح في آخر العرض فراغًا لا يعيّن المسافات: بين لبيد وكاميليا، بين ريمون وكاميليا، بين ريمون ولبيد، بين الجميع والكلب، بين الممثلين والجمهور، نحن في عرض يعتمد الدائرة الهندسية التي لا يخلو فعل درامي من حضورها كما يقول دريدا. تمدنا خطوط الأشياء التي صنعتها الطاولة بأصوات تدل على اشتباكات بين العرض والجمهور فالصوت الذي يصدر عنهم هو صوت الذات الداخلية للعرض، الصوت المشطوب بالقوة، ها هو يظهر على الايدي المجروحة دمًا، ووشمًا وعلى الذاكرة الجمعية للمشاهدين. فبالرغم من المحو العنيف للشخصيات الفاعلة، أحيا المخرج في الجمهور حاسة “إرادة القوة” التي من خلالها أصبح الجمهور مشاركًا كممثلين داخل مسرح الحياة.
يقول المخرج الكبير د. جواد الأسدي “أن الممثل هو الملاذ الحقيقي للعرض المسرحي” وهو هنا ينتمي للمخرجين والكتاب الكبار الذين يعتمدون على منشدين سواء أولئك في المسرح اليوناني، أو هؤلاء المخرجين والكتاب: بيتر فايس، وبيتر بروك، وجان جينيه، ومايرخولد، فالممثل لغة تكوينية للعرض وليس مؤديًا لما هو مكتوب، تختلط انفعالاته بتراكيب ذاكرته، حيث التمثيل ذاكرة تستعيد تاريخ الصورة، بينما الذكريات فردية، ذاتية لا تستعيد إلا نفسها، لذلك كان الممثلون متجردين من هوياتهم الشخصية ومندمجين في سيرك الذاكرة الجماعية التي تؤلف فضاء محلقًا بالزمن الإنساني، وعلى أرض تعيش مشكلات الغزو والاحتلال والقتل والعدوان والإلغاء، لتجد اختلاطًا بين ذاكرة عراقية وفلسطينية، معيشة ومستحضرة، مشطوب عليها وظاهرة تقرأ في وسائل الميديا، ليتكون العرض من مشاعرنا أيضًا نحن المشاهدين كممثلين وشهود على ما يجري، فما يروى هو حكايتنا التي لم نستطع تمثيلها لكثافة مفرداتها وتقطع خيوطها، حيث اللاعب الكبير ترك الممثلين يروون انكساراتهم، وتركنا نحن نشاهد ما يجري لهم، وقد شطب على تاريخهم وحياتهم بمرونة العجائن السماوية التي تختلط فيها الأشكالات. هذا العرض يعلمنا أن الكيفية التي نقرأ فيها الماضي هي الوعي باننا نعيشها في الحاضر، فالزمن يدور كما لو كان خيطا غير منقطع.
على مساحة بيضاء تم العرض حين تداخلت فضاءاته مع بقع مظلمة هي نقاط في حيوات الشخصيات، يجسدها مقتل الكلب الذي تم بعنف لم يدرك معناه بالكامل، مع أن الكلب كان غائبًا، إلا من دلالة الصوت، والكلام عنه لا يؤدي تجسيده. فالمخرج لا يحب الألوان ولا العاب الميزانسين، لأنه يشتغل على فضاء متجسد معاش ومحسوم المسافات، وكنت أفضل لو أن لبيد وريمون وكاميليا تناوبوا رواية مأساتهم الذاتية جماعيًا وبطريقة متداخلة فالأرضية المشتركة لا تسمح لأحد أن ينفرد برواية ما حدث، هذه الأصوات لو تجمعت لكونت حزمة من الوجود الصاخب، وبهذه الكفاء الأدائية العالية حيث يتناوب الكلام فيها يخرج العرض من الشخصي إلى الجماعي، بل يروي حياة ممثلين في سيرك لحيوات مختلفة، لذلك ستكون بينة الإخراج الجماعية المتداخلة الكلام هي البنية الاخراجية الملائمة لصوت اجتماعي مؤلف من عديد من الأصوات الفرعية، حتى أني شعرت ان العرض يكون أجمل لو الغيت المسافات الشخصية وتم كل شيء امامنا متداخلًا حميميا يستعير بنية السيرك الجماعية بحيث لم يختف أحد من المشهد ولم يبدأ أي ممثل بعد أن ينتهي الآخر ، الكل سيشترك في صياغة اللوحة الشعرية للعرض. خاصة وان هوى المخرج مع الجسد والمسرح الفقير، وعدم البهرجة ، لقد بدا المكان وكأنه فراغ بحاجة لمن يشغله.
عرض من هذا النوع كما أرى لا يكون إلا أمامنا بكليته، حتى مكياج الشخصيات يتم أمامنا، عرض متتابع الزمن ومتداخل الكلام، نشيدٌ جماعيٌ كما لو كانوا في سمفونية تعزفها آلات عديدة، فالأصوات ليست ثلاثة فقط، بل أصوات الجمهور أيضًا، هذه الجماعية الأدائية تعكس شمولية المأساة وعنفها، حتى السيرك لم يكن بأداء فردي، وإنما كان وما يزال اداءه جماعيًا، كنت أتمنى لو بقي الأشخاص كلهم على المسرح، فلا أحد منهم يخرج أو يدخل فالزمن معلب بالمكان، ولا ينوب أحد عن الآخر ، إنه السيرك الذي نرى شخوص لعبته كلها وهي تؤدى جماعية كشعرية كونية. ولكن يبدو أن حقيقة المسرح تبقى تمثيلًا للظاهرة، وليست تركيبًا لها من مشاهد ملتحمة لحياة يومية جرى تشييدها. هل يكفي القول أن الممثلين كانوا اكفاء ؟ نعم يمكن القول أنّ ذلك حدث عندما اشتركوا جميعًا مع المخرج في تجسيد رؤية كونية للوجود مهمتها الغاء الشطب الذي مورس ضدهم. عمل يغذي ذاكرتي لسنوات، بعد أن جف أو كاد أن يجف عطاء مسرحنا العراقي الرائد.
تحية للعاملين في هذا العرض الاستثنائي.