في لقاء أجرته أحد القنوات الفضائية مع الشاعر موفق محمد في مدينة الحلة ، لم يشأ أن يغادر محل صديقه النداف، ولا الأماكن الشعبية التي امتزجت بأيامه المتعبة في مدينة الفيحاء ولم يبتعد عن موقع المطعم الذي كان يبيع الشاي قريبا منه ، فقد أتسم بالجرأة والصلابة والصراحة ، وكأنه يشير الى الإنسان والشاعر . وموفق محمد يحمل كل هموم الدنيا ووجع الماضي ويختزلها في قصيدة من قصائده . وفي جلسة ضمتني معه، بدا موفق محمد قلبا يتسع لكل الكون، وأجنحة تكفي للطيران فوق كل مساحة الأرض ، مع انه لم يغادر العراق منذ ولادته في العام 1948في الحلة المعجونة وسط وجدانه وضميره ، أو خلال دراسته الجامعية في بغداد، لم يكن يحلم بالرحيل فقد تمسك بتراب الحلة وعشق عمله التربوي كمدرس مع حجم المعاناة التي كان يعيشها في ذلك الزمن ، مع كل الإبداع الذي كان يخفيه عن أعين السلطة ، ومع كل هذا الشعر المتنوع الذي تخزنه ذاكرة موفق محمد ، فقد كان يتهرب ويتخفى ، حتى لا يكون فريسة لسلطة تريد أن توظف وتأكل بأسنانها المثقف والاديب والقصيدة.
(( الحلة
التي هي بحجم رغيف الخبز
شكلاً ورائحة وطعماً
تشرق شمس الحلة
وتعانق خصر النهر وتجري
فلا شمس وربك اجمل من شمس الحلة
وهي تتلألأ من نور في كف علي
وتبسم رهن إشارته ))
ويبقي مستمرا في عمله كأستاذ للغة العربية التي يعشقها ، ويقيم علاقات انسانية مع طلابه ينمي فيهم القيم والمبادئ التي يؤمن بها ، وينتظر منهم العطاء للعراق . كان موفق محمد يوظف ما يستطيع من بحور اللغة لتجسيد صورة الواقع المزرى الذي يعيشه الإنسان في العراق ، وبرغم كل العيون المنتشرة في الظلام لم يك يخشى على شيء حيث لم يكن يملك سوى روحه وضميره في مدينة تعرف يقينا من هو موفق محمد . وبقي يهمس ويلقي قصائده في حلقات الأصدقاء والثقاة شديدة الانغلاق ، وحين ثار أهل العراق في العام 1991 على سلطة الطاغية ، كان وولده وسط تلك الانتفاضة العارمة ، وقدم لتلك الثورة ولده الحبيب ( عدي) الطالب في السنوات الأخيرة من كلية الهندسة على مذبح حرية العراق . وكان لاستشهاد عدي على ابيه الإنسان تأثيرا كبيرا ، وأجج مشاعره الكامنة ، والتي جسدها في قصائد موجعة وملتهبة تتلمس من كلماتها انسحاق روح الشاعر، وما يزيده وجعا انه لم يعثر على جثمانه . ليضمه قبرا من قبور اهل العراق .
ولم يستكن موفق محمد حين لجأت السلطة الى فصله من التدريس ، عاد يقرض الشعر ويبيع الشاي في الطرقات ، يعيل عائلته ، ويجسد أروع القصائد التي يكتبها على ورق الدفاتر ويحفظها في بيوت أصدقائه ، حيث منعت السلطة موفق من إصدار أي مطبوع أو ديوان يضم قصائده ، أضطر الأصدقاء الى تداول قصائد موفق محمد بالأشرطة الصوتية سرا .
(( اشما يدور الزمن وتعيث بينه المحن
لا تيأسن يا حسن كل ماسة والهه مِسَنْ
البينة لو بالصخر صاح آخ من القهر
الﮕلب ﮔصه الطبر وبنياطه خاط الﭼفن
لاتيأسن يا حسن
ما صارت ولا جرت يا ريت عيني عمت
ما انصفت من صفت ايدور خبز باليمن
لا تيأسن يا حسن ))
ولموفق محمد مكانة متميزة في مدينة تعد من بين أهم المدن الثقافية والغارقة في العراقة والقدم ، فأهل الحلة القائمة فوق بقايا بابل العريقة ، جلهم من النخب الثقافية الواعية، ومدينة يتابع أهلها مبدعيها ويحترمون الموقف والمبدع .
(( فيا رب
خلَّ الموت لي
ووعد يغمض عيني ويطبع قبله على
جبيني
تضيء لي القبر بآلاف الفراشات التي
كفنتني بها يداه
أو دعني اقبله
وكيف يقبل من كان في الكفن رمادا))
(( لا تدفعوني من العتبة
دعوني اموت وعيني شابحة
على الطريق
علي اسمع وقع خطاه))
وخلال تلك الفترة التي هزت مشاعر موفق محمد ، تمكن من نظم قصائد تعبر عن رفضه للواقع المرير الذي تعيشه البلاد ، وأعلن انحيازه العلني للأنسان ، وبدا موقفه واضحا ويأخذ مسارا خطيرا في الانحياز الى الرفض الشعبي لكل ما يمت للسلطة بصلة .
وإذا كانت قصيدة ( الكوميديا العراقية ) التي نشرتها له مجلة (الكلمة) باكورة قصائده المنشورة ، فقد عبرت تلك القصيدة عن قدرة وموهبة فذة ، وبقي موفق محمد منسجما مع الظروف الاقتصادية التي كان يعيشها ، غير قادر على طبع ديوانه الشعري ، لم يكن هذا الشاعر يتملق سلطة الجهل ، ولم يهادن ولم يبع الكلمات التي يكتبها ، لأنه يعتبرها جزءاً من روحه المشتعلة .
(( صدقوني
ايها الجيل الذي يبكي على الرمل خطاه
ايها الجيل الذي ينتظر الريح التي
تحمل للأرض اله
ان الطبيعة قاسية جدا
لدرجة انها جعلتهم لا يصلحون
الا لرعي الأغنام))
(( قلت للموتى خذوني
لم اعد احتمل الرأس الذي يكبر
في رأسي ويبكي الشجر
لم اعد اعرف الوان العتابة
اكتشفت فجأة
وعلى جدران دورة المياه
كيف كان العراق في العشر سنين الأخيرة))
وبقي موفق محمد أسما معروفا من قبل الشعراء والنقاد ، غير ان حضوره لم يكن في منتديات ودواوين السلطان وأتباعه، ولافي المهرجانات التي تقيمها السلطة لتمجيد الدكتاتور فبات مهمشا وبعيدا عن العيون ، غير انه كان يفرض اسمه حاضرا في ضمائر الأدباء والشعراء ، بالرغم من جلوسه أمام احد مطاعم مدينة الحلة يبيع الشاي ليسد بها رمقه وعياله، ينتمي الى مرابعه الأولى ويحن الى الأزقة والدكاكين والرفاق الفقراء . ويعود متحدياً سلطة الطاغية بنشره قصيدة في مجلة “المصور العربي” بعنوان ( عبد ئيل ) ، يجسد فيها صورة من باع نفسه وقلمه من الشعراء والكتاب في أسواق النخاسة، جسد الترحيب بها ذلك الاستنساخ الواسع الذي تداوله أهل العراق ، وتلك القصيدة تجسد أيضا ليل العراق الطويل ومعاناة أهله ، وما جلبته الدكتاتورية والحروب والحصار من مآس على العراق والعراقيين ، ومر بمناجاة رائعة على ولده وكل الشباب الذي ضمتهم الأرض في مقابر مجهولة ، ليجيش كل مشاعر الناس ، وجعل أسمه متداولا بسرية بين الطيبين من أهل العراق .
يتميز موفق محمد بالابتعاد عن الأضواء ويميل الى الجلسات المغلقة ، وحين يجد الاطمئنان والانسجام يطغى على صورته وإمكانياته ويزيده إبداعا واقتدارا ، موفق محمد يشكل تحديا للزمن الذي مارست فيه السلطات قمع الكلمة واغتيال الشاعر بالصمت ، ولم يزل ملتزما بعدم انبهاره بالأضواء ، فلم تحركه الصحف و لم تبهره أضواء الفضائيات ، لكن تستفزه الكلمة وتحرك اشجانه تلك المفردات التي يطبعها من القلب فيكتب أشعاره من نزيف الروح .
تمكن موفق محمد من توظيف المآسي التاريخية لصالح القصد الشعري ، وأستطاع أن يوهم السلطة ويقنع المتلقي، لكن قصائده كانت تذبح كحد السيف ، تعبر عن محنته وروحه الملتاعة .
وفي قصيدته ( لا تيأسن ياحسن ) الشعبية تعبير روحي يستله الشاعر من عمق المعاناة العراقية ، ويشكل به قصيدة هي أعمق صور المأساة العراقية من قصائد الشعر الشعبي ، وكذلك قصيدته (( ميت أنا )) ، مناجاة رائعة لفقدان الحبيب تنبع من الروح ، وبهذا الولوج الشعبي تمكن من إن يلج النقيضين فيبدع بهما سوية ، فيتخطى مكانه .
وفي قصيدته ( ثلاث صور ) يقول :
(( مقابرنا ما عادت تكفي موتانا
لأزدياد أعدادهم بتدفق مستمر كالشلال ..
لأنه بشلالات الدم بقاء الأخر
ولكي نخفف من سمنة المقابر / صار لزاماً أيضاً
أنْ نحرق موتانا / لنعيد إليها رشاقتها / بأطباق الرماد))
تمكن موفق محمد أن يختزل المحنة في قصائده ليعود يسكب فيها خلاصة الفلسفة والثقافة المستترة التي تبناها ، فعاد يوظفها لصالح قصيدته التي سيكون لها وله الشأن الكبير في العراق ، ولم يزل أهل العراق وعشاق الشعر والكلمة يتابعون أسمه، ولا غرابة حين نفتقده في المؤتمرات فالكبار يتسمون بالتواضع.
(( قلت للموتى خذوني
لم اعد احتمل الرأس الذي يكبر
في رأسي ويبكي الشجر
لم اعد اعرف الوان العتابة))
وإذا كان هناك استحقاق حقيقي للثقافة في العراق، فأن تكريم موفق يمكن إن يجسد استحقاقه بوصفه الشاعر الذي ينحاز بقصائده الى صف الفقراء والمحرومين ، وبحرقة العراقيين والملتاعين ، ويستمر في دفق الكلمات العراقية الأصيلة من التي يعجنها بماء الفرات وتراب بابل.