الحديث عن طباعة الأعمال الأدبية كما هي يتجاوز مسألة النشر التقليدي إلى نقاش أعمق حول طبيعة الهوية الثقافية والإبداع الأدبي، ذلك أن الأديب ليس كاتباً للكلمات الجميلة أو الحِكم الذكية فحسب، بل هو مرآة تعكس تعقيدات الحالة الإنسانية، وكل تجربة ذاتية وإن كانت تبدو بسيطة أو متعثرة هي تساهم في تشكيل منظور فريد للأديب، فإذا اقتصرنا على نشر الأعمال التي تمثل ذروة إبداعه فقط، فنحن بذلك نختزل منجزه في لحظات نجاح محدودة، ونفقد حينئذٍ القدرة على فهم حياته. ليست تجربة الأديب دائماً خطاً مستقيماً نحو النجاح، فكما أن هناك لحظات تألق هناك أيضاً لحظات تردد، وضعف، بل وفشل، وتلك اللحظات بمجموعها هي التي تكشف عن أبعاد حقيقية في شخصية أيّ كاتب. فالأدب ليس فقط للحديث عن الكمالات، بل هو عن الصراعات أيضاً، وعن العيش مع الشكوك والضعف، وعن البحث الدائم عن المعاني المتعددة، والطباعة الكاملة للأعمال حينئذٍ تتيح لنا الاطلاع على كل هذه الجوانب، وتجعل التجارب متكاملة.ومن الناحية النقدية فإن الأعمال “الأقل شهرة” أو تلك التي لم تحقق نجاحًا عند صدورها تتيح مساحة للتأمل في تطور الفكر والأسلوب عند ذويها، ولربما كشفت عن تأثيرات خارجية؛ كالسياق الاجتماعي الذي كان الكاتب يعيش فيه، أو التحولات الفكرية التي مرّ بها، فالاطلاع على جميع أعماله يظهر للناقد التطورات الدقيقة في توجهاته الإبداعية، وكيفية تفاعله مع قضايا المجتمع المختلفة. وتمنح الطباعة الشاملة القارئ فرصة للتواصل مع الكاتب على مستوى أعمق؛ بحيث يستطيع أن يرى مراحل النمو التي مر بها الأديب، مما يجعله أكثر ارتباطًا بالنصوص، ليس فقط بسبب جودتها، بل لأنها تعكس مسيرة حياة بأكملها، والأدب بهذا المفهوم لا يصبح نتاجاً فكرياً حسب، بل تجربة إنسانية ثرية تتحدث عن النجاح والإخفاق على حد سواء، وبهذه الرؤية يصير الأدب نافذة على الإنسان الكامل، بكل ما فيه من ضعف وقوة، من نجاح وفشل، ومن تألق وتردد.
أما عن مسألة حجب الإبداع من قِبَل أسر الأدباء الراحلين، فهنا يتداخل البعد الأخلاقي مع البعد القانوني والثقافي، فمن منظور أسري قد ترى العائلة تنشر بعض الأعمال التي قد تؤثر على سمعة الراحل أو تمس بكرامته، خصوصاً إذا كانت هذه الأعمال تعكس جوانب شخصية جداً أو تتناول موضوعات حساسة، أو ضعيفة، ومن ثمّ نتفهم خوف الأسرة على إرث الأديب؛ كفرد من العائلة، أكثر من كونه جزءاً من التراث الإبداعي. لكن يجب أن نتساءل: هل الأديب حين كتب لأسرته فقط.. أم أن الإبداع الأدبي هو فعل موجّه للمجتمع وللتاريخ الثقافي؟ إذا نظرنا إلى الأدب كمرآة لروح البيئة والتجربة الإنسانية، فإن من حق المجتمع الوصول إلى هذه الإبداعات، حتى وإن كانت غير مكتملة أو مثيرة للجدل؛ لأنها جزء من ذاكرة ثقافية جماعية يجب أن تحفظ، ولا يمكن أن تكون ملكاً خاصاً لأفراد. لذلك أرى أن على الدولة والمؤسسات الثقافية؛ كروابط الكتّاب التدخل لحماية هذا الإرث من أي قيود قد تفرضها الأسر أو الورثة بدافع الحماية أو الخوف من النقد، فالدولة بوصفها راعية للثقافة، والمؤسسات الأدبية بوصفها حارسة للأعمال يجب أن تلعب دور الوسيط العادل بين حقوق الأسرة وحقوق المجتمع في الوصول إلى إرث الأديب. ويمكن أن يتم ذلك عبر توفير طرق لنشر هذه الأعمال مع تقديم السياق المناسب؛ كنشر طبعات نقدية أو مرفقة بشروحات تفسر الظروف التي أحاطت بكتابة هذه الأعمال. وأرى أن هذه الطريقة تحفظ للأديب هيبته وسمعته، وتمنع في الوقت نفسه حرمان المجتمع من جوانب مهمة من تاريخ الفكر والإبداع. ولابدّ أن يعي الجميع أن الإبداع الأدبي ليس ملكاً لفرد أو أسرة، بل هو جزء من التاريخ الثقافي، فحرمان الأجيال الناشئة أو القادمة من الوصول إلى هذا التراث، سواء بسبب خوف عائلي أو خشية من النقد، هو حرمان لهم من فهم أعمق لتاريخ الفكر والأدب، بل ومن القدرة على استلهام دروس الماضي لبناء المستقبل الأفضل.