اخر الاخبار

من يحميني والجماجم تهطل بغزارة على هامتي؟

 

الرجل: تعامل برفق معه فهو اغلى منك بأضعاف.

الصبي: لن اقبل بالإهانة .

الرجل: (بسخرية) ستقبل...ستقبل...نقبل بكل شيء حين يكون المقابل هذا(يلقي بقطع نقدية معدنية على الصبي بينما يتذمر الصبي ويحاول التشاجر معه فيمسك به الاسكافي محاولا منعه).

الاسكافي: ابلغتُ امك انكَ لن تستطع معي صبرا.

الصبي: لا تؤاخذني بما نسيت.

الاسكافي : عوّد ظهرك على الانحناء وطأطئ الهامة، والا لن تعيش.

الصبي: ( مستنكرا) ولدت حراً ..

الاسكافي: (يغضب) لا تلوث الصندوق بتلك الشعارات...ابتعد هيا ابتعد.

الصبي: خرجت لكسب الرزق الكريم.

الاسكافي: انت خارج الصندوق فلا كرامة لك.

الصبي: ماذا عن من سبقني اليه؟

الاسكافي: قالوا لنا انهم الاكرمون... لكن ليست كل الصناديق سواسية... فهي كالأحذية فيها الفاخر وفيها المميز وفيها دون ذلك.

الصبي: هل يحق لنا اختيار الصندوق؟

الاسكافي: بالطبع نحن مخيرون....اسمع يا صغيري... تعّلم دون ان تتكلم... اكسب رزقك دون فلسفة ...اعمل من دون ان تنظر الى وجه الزبون فما يهمك هو حذاءه عندها سيكون لك صندوقك الخاص.

الصبي: ستجدني ان شاء الله صابرا ولا اعصي لك امرا.

الاسكافي: لا تنسى انك تتعامل مع الاحذية.

الصبي: هل احببت هذا الصندوق؟ هل عشقت يوما؟

الاسكافي: مضى زمن طويل على تلك المشاعر. لكني بالطبع عاشق للحياة.

الصبي: وهل في مهنتنا متسع للعشق؟

الاسكافي: حياتنا حذاء نرتديه، وحين تنتهي صلاحيته يُخلع.

الصبي: لكنك لا تلبسه؟

الاسكافي: لأني لم اجد مقاسي حتى الان.

الصبي: يمكنك صناعة حذاء بمقاس يناسبك.

الاسكافي: الصناعة مكلفة ومتعبة، ابحث عن حذاء مستورد بماركة عالمية.

الصبي: وماذا عن القياس؟

الاسكافي: ان وجدت الحذاء دون القياس سأجري عملية تهذيب لقدمي، (ينظر الى قدم الطفل) ابحث في الصندوق قد تجد ما يناسبك.

الصبي: شكرا، لكني احب هذا النعل الذي صنعته لي امي.

الاسكافي: لا تحدد ذاتك بقيم فارغة... فمهما كبرت ستبقى  مع الاحذية، هل فهمت؟ ...هذا حاضرك ومستقبلك.

الصبي: كنت ذلك الفارس الذي يعتلي صهوة جواده ... واليوم انا مجرد حصاة في حذوة ذلك الفرس... كانت الغيوم تسترضيني كي احدد مكان هبوطها، اما الان فالأمطار تدمي الرؤوس... البطون حبلى بالخوذ والاكفان...الوليد يتشح بالأبيض او ربما الاحمر، فيصطبغ العالم بالليل الحالك، مع كل تكبيرة طازجة في اذن الوليد( اصوات تكبيرات من خارج المسرح).

الاسكافي: انه وقت التجارة ...احفظ الصندوق ...سأعود بعد انتهاء الصلاة.

الصبي: سارع الى التجارة فلربما (بسخرية) تتمكن من شراء حذاء.(يخرج الاسكافي، بينما يتحدث الى نفسه) كيف يمكننا اختيار صناديقنا...ان كنا في كل شيء مسيرون؟! ترى هل سيكون لي صندوق مهيب كصندوق ابي؟ ام ساُترك من غير صندوق؟ (يستدرك) نعم سيكون لي نفس صندوق ابي ... لكن عليّ الصبر، تحمل المصاعب، العمل الطويل، سأتمكن من شراء صندوق يليق بي وبعائلتي.

(اصوات ضجيج وسيارات شرطة، يدخل مجموعة رجال بزي رجال الدولة)

الضابط: اقبضوا على الاسكافي  فتشوا الصندوق.

الصبي: سيدي ما الامر؟

الضابط: ضعوه في الصندوق.

الصبي: هذا ليس صندوقي...هناك خطأ.

(يُجلِسون الصبي على الكرسي، ويحدث اظلام للمسرح الا من بقعة ضوء مسلطة على الصبي والضابط يدور حوله)

الضابط: منذ متى وانت تعمل هنا؟

الصبي: منذ ان سافر ابي.

الضابط : واين والدك؟ 

الصبي: اختار صندوقا يليق به.

الضابط: سيكون لك صندوقك الخاص، لكن ليس على هذه الارض.

الصبي: لا اعرف غيرها، وامي؟ بل هي امي.

الضابط: انت غريب ولا يحق لك البقاء، تتعامل مع المستورد وهذا ممنوع في مدينتنا.

الصبي: انا من هذا الاديم وابي غادر لأجله.

الضابط: لا داعي للثرثرة... ستبقى في الصندوق حتى موعد مغادرتك.

الصبي: ماذا عن هذا الصندوق.

الضابط: له من يحميه.

الصبي: وانا من يحميني؟  والجماجم  تهطل بغزارة على هامتي، ليس ثمة ماء، لا شيء يوحي باللذة، كلنا جياع نتوسد الحنظل بعد ان هجرنا الصبر الجميل.

الضابط: لا شيء بالمجان...كل شيء بثمن.

الصبي: حتى هذا الصندوق يستوجب الدفع؟!!!

الضابط: (مال البلاش ما ينحاش) (بمفاخرة) نزيل في فندق اربع نجوم وتريد خدمة مجانية؟

الصبي: لم انتخبه بديلا عن رصيفي.

الضابط: لا مكان لك هناك.

الصبي: وامي ؟

الضابط: تود رؤيتها؟

الصبي: الحنين اليها جمرات تُذيب قطبيّ الروح.

الضابط: ااااه من ذلك القلب... طفل لا استطيع كبح جماحه، اعطني عنوانها وسأطلب منها زيارتك، ان كانت تريد ذلك.

الصبي: تريد طبعا تريد، فالجدران تخفق مع عقارب قلبها المتسارعة.

الضابط: سنرى...ونشعر... نتلمس...ونستمتع.

الصبي:  تقدم المساعدة  دون ثمن؟

الضابط: لا شيء دون ثمن، ربما هي من سيُحاسِب على الفاتورة  (استدراك) هذا ان شاءت وشاء لها الهوى.

الصبي: ليس كل ما تظنه مباح.

الضابط: طبعا ليس كل ما تظنه مباح.(اصوات اطلاق نار كثيف من خارج المسرح)

صوت: سيدي هجوم... ملثمون يهاجمون السجن.

(يخرج الضابط مسرعا مع صرخات الصبي): اخرجني ارجوك.

(اظلام تام، يظهر بعدها الصبي ومعه مجموعة من الملثمين يحيطون به، على شكل بقع ضوئية )

الصبي: (باستهزاء) كل من خارج الصندوق يقاتل كي يدخل الصندوق... هزيلة تلك الحياة.. من انتم؟

(يتقدم المجموعة رجل ملتحٍ بشخصية هو، يرتدي زي ارهابي)

هو: نحن من سيهبك الحياة.

الصبي: لم اعرف واهبا غيره.

هو: نحن جنوده .

الصبي: يمكنكم انقاذي؟

هو : (يضحك بهستيريا) طبعا يمكننا كما انقذنا معلمك من قبلك.

الصبي: من دون مقابل؟

هو:  هل تملك ما يستحق ان يكون ثمناً؟

الصبي: لا املك شيئاً ... حتى الهواء الذي في صدري ملكيته تنتهي مع كل زفير.

هو: الم يترك لك والدك ارثا تُجازياً به من يُنقذك؟

الصبي: لم يترك لي سوى بضاعة كاسدة، تدعى كرامة.

هو: نِعم الارِث...ستكون خلفا مشرفا لذلك السلف.

الصبي: ويكون لي ذات الصندوق؟

هو: طبعا.

الصبي: كيف؟ والحرب قد اعلنت توبتها؟

هو: حربنا مع الشيطان وجنوده لن تنتهي.

الصبي:  الشيطان ينافس الضابط  في احتلال ارضي.

هو: لا تخف نحن لن نفعل ذلك... نستوطنها لفترة وجيزة...استراحة مقاتل...سنصنع لك صندوقا يليق بك.

الصبي: يشبه صندوق ابي.

هو: بل اجمل ... فصندوق ابيك لم يكن من خشب جيد .

الصبي: وامي؟

هو: انا من سيعتني بها شخصيا. (يتحدث الى الاسكافي خارج المسرح) تعال ايها الرجل الطيب اكمل تعليمك لهذا الصبي النبيه.( يدخل الاسكافي، ويقوم بربط حزام ناسف على جسد الصبي)

الاسكافي: اسمع يا صغيري... تعّلم دون ان تتكلم... اكسب رزقك دون فلسفة ...اعمل دون ان تنظر الى وجه احد.

الصبي: (ينظر الى قدم الاسكافي) هل وجدت مقاسك؟

الاسكافي: بل هذبت قدماي كي تليق بالمقاس الجديد. وعليك انت ايضا ان تخضع لذلك المقاس.

الصبي: علمتني كثيرا، وقدمت لي النصح.

الاسكافي: ما الحياة عندكم سوى حذاء نرتديه.

الصبي: لكني ما زلت اعشق ذلك النعل الذي صنعته لي امي... واطمح في وطن من دون صناديق حتى وان كانت تشبه صندوق ابي . (يخلع الحزام ويلبسه للإسكافي) لقد اخترت مقاسك وسأختار مقاسي، فصندوقي لا تحده حدود ... وداعا.  

ـــــــــــــــــــــــــــ

*استاذة المسرح في كلية الفنون الجميلة- بغداد.

عرض مقالات: