اخر الاخبار

عندما يكون المحمول الدلاليّ كُثاريّاً وعميقاً، سيكون فائضاً كثيراً عن حاجة كلّ قراءة تُعنى بالواحديّة والتلقّي السطحيّ ينشأ لدى هذه القراءة نوع من التّعثر والمشقّة نتيجة للنقص في أدوات تسلّمها للخطاب. ذلك هو السبب الرئيس لكلّ قطيعة ما بين كلّ نصّ من هذا النّوع وقارئه. العمق لا يعني الباطن كما تخدعنا دائماً كلمة (عمق) بما تتوفّر عليه من  سمعة شهيرة مهيبةٍ، إذ إنّ  لكلّ عمقٍ بواطنَ، وما هذه البواطن إلّا طبقات تمتدّ عموديّاً. الباطن هو ما يجب أن يخضع للعيادة والفحص والدّرس أيضاً، وما القول بسبْر عمقٍ ما كليّاً، لا أظنّه، إلّا ضرباً من طوباويّة نقديّة. سبْر أيّ عمق إذاً لا بدّ أن يعني مجموعة من الأسبار لبواطن ذلك العمق باطناً.. باطناً وطبقةً.. طبقة. مع مثل هذه المحمولات يشتغل التأويل ويتعثّر، إن لم يتعطّل، التفسير.

  • إذا كان ياسبِرز دقيقاً عندما نبّه إلى أنّ الشّعر من جهة كونه ((فلسفة جمال سلطةٍ، هو وحده من يجيد التّعبير الكامل عن ثراء الروح وشفافيّتها وامتلائها من سحر الكلمات ومشاهدها الطقوسيّة، إلى صورة مصائر الإنسان)) إذاً يمكن القول إنّ حركات الحداثات الشعريّة العربيّة بتجلّياتها المعروفة ليست ترفاً فكرياً وفنيّاً كما كان يشاع، وإنّما هي نتاج منطقيّ للروح الشعريّة والفكريّة الفعّالة، وقبلها للعقل الشعريّ والنقديّ الفعّالينِ من التراث، وتجاوزٌ للثابت المستقيل منه في الآنِ نفسه. كما أنّ كلّ محاولات النَّـيل من هذه الحركة إنّما هي عمقيّاً ايديولوجيّة ارتداديّةٌ للحطّ من فاعليّة هذه الروح وهذين العقلين، وذلك عِبر الايحاء بأنّ كلّ حداثة أو تحوّل هما ليسا من طبيعة هذا التّراث أو هو بالمعنى الآخر ليس قابلاً لذلك، إلى جانب تمتّع هذه الايديولوجيا بثقافة التّشكيك والتأثيم بذريعة الدّفاع عن الأصالة والخصوصيّة، ثقافةِ اقصاء والغاءٍ في باطنها وأصيلة منافحةٍ في ظاهرها، ذلك أنها ترسّخ لكلّ قديم ثابت وتروّج لكلّ استلهاميّ معاصرٍ مؤتلف، ولا تهاجم إلّا كلّ متحوّل مختلف كونه يسعى إلى خلخلة ثوابت الأشياء ناقلاً إيّاهما من منطقة الكسل والببّغاويّة إلى فَلك التفكير والتأمّل والتّساؤل والتّعدّدية، وفي ذلك طبعاً خلخلة لسلطة العقل المؤسّساتيّ السياسيّ والفكريّ والاجتماعي الشّمولي. فأن يظلّ العقل الثقافيّ العربيّ سياقيّاً معناه بالمقابل مواصلة الخضوع لسلطة المؤسسة السياسيّة واحديّة التفكير والنّزعة. من هنا يظلّ أصحاب هذه السّياسات ودعاتها والمروّجون لها مصرّين على أنّ أصالة الشاعر الثقافيّة شرطها الأساس أن لا تصدر إلّا عن هذه الواحديّة سياقاً وتفكيراً وطرق تعبيرٍ، وما الأصالة هنا إلّا كما يراها العقل الثـقافيّ الجمعيّ. أصالة الشّاعر الحقيقية دروس مفتوحة أبداً على الاجتهاد المتفكّر المتسائل المتحوّل. من هنا ظلّ كلّ نوع شعريّ خارج على السياق الشعريّ العربيّ القديم المتداول نوعاً من ((الذّواء والتـّلف))، فهذا النوع ((بمنزلة الرّيحان يُشمّ يوماً ويذوي، فيرمى على المزبلة، وأشعارُ القدماء مثل المِسك والعنبر، كلّما حرّكته ازداد طيباً)). ابن الأعرابيّ لا يصدر هنا إلّا عن مضاددةدة الحقيقة، ذلك أنّه يُضادد حركة التاريخ نفسها، كونه يزيِّف حاضر الفهم العربيّ وقتذاكَ قياساً بأشعار القدماء، ومستقبلَ هذا الفهم (فهمنا نحن الآن) مما يعني أنّ الزمن العربيّ لا يتقدّم إلّا إلى وراءٍ، وما الشّعر حسب فهمه هذا إلّا حركة مربوطة بمثل هذا التقدّم- القَهقرى، وأنّ العقلين الشعريّ والنقديّ العربيينِ جامدان مستقيلان تماماً عن التغيّر والتّجدد والتطوّر. وبذا لا بدّ على الشّعر أن يكون مربوطاً هو الآخر بحركة هذه القهقرى، في الوقت الذي نتطلّب فيه شعراً لا يقنّن تِبعاً لمثال شعريّ سبقه، شعراً عابراً للعادات الشعريّة التي تحوّلت إلى قوالب محنـِّطة للفكر والأسلوب الشعريين، نتطلّب شعراً فاعلاً لا ردّاً على فعل ((فما الفرق بين تقليدكَ، وبين من قلّـد غيرَ الذي قلّدتَ أنت))؟ كما تساءل ابن حزم في (الأحكام) قبل عشرة قرون تقريباً.
  • اللغة الشعريّة ليست سياقاً ولا عُرفاً ذا أبعاد قياسيّة نهائيّة، وإنما اشارات مُلتبـِسة مقارنةً باللغة. من هنا نفهم واحداً من أهمّ أسباب استبدال دريدا لمفهوم الخطاب البنيويّ بمفهوم الأثر، لأنّ الأثر الأدبيّ ((محكوم بقوّتين الأولى تـثبّـته والثانية تلغيه)). إنّ للغة الشعريّة طاقة سحريّة لا تحدّها أيّةُ وضعيّة معرفيّة للغة بعامّةٍ، لأنّ هذه الأخيرة نفسها هي ((شكل مرِنٌ وليست مادّة)) أي متحرّكة تظلّ تتشكّل وتبرز عبر أشكال جديدة. وبما أنّ الشكل قوّة تنسج العلاقة ما بين الكلمات، وبما أنّ المادّة هي هذه الكلمات نفسُها فلا يمكن الجزم بأنّ هنالك حدوداً نهائيّة لطاقة كلّ لغة وفقاً لهذا التوصيف. اللغة شعرياً ليست ممارسة بقدر ما هي حساسيّة تحوِّلٍ فعّالةٌ متجدّدة.
  • أوّلياً: لكلّ نظام أعراف تنشأ بتقادم الزمن والاستخدام في ظلّ هذا النظام. عمقيّاً: الثّباتُ غالباً ما لا يكون في النّظام نفسه بوصفه مجموعة أو منظومةَ رؤى وأفكار وتقاناتٍ، وإنّما في هذه الأعراف نفسها التي تتحوّل بفعل هذا التقادم والتراكم إلى أصل، فيما يتحوّل النظام الذي تكوّنت منه هذه الأعراف إلى تابع ظلّ لها. وهذا في الغالب ما ينطبق على الثقافة والحياة العربيّتين بعامّة.*
عرض مقالات: