العرض المسرحي لفرقة كركوك المسرحية "النكات " للمؤلف علي عبد النبي الزيدي ، ومن تمثيل واخراج مريون زنكنه ;رحلة عميقة في أروقة النفس لكشف أوجاعها وتناقضاتها، رحلة تجمع بين الكوميديا والتراجيديا. لتروي قصة ممثل يحاول تقديم مجموعة "نُكات" في عروضه المباشرة لأجل أن يدخل المتعة والبهجة لجمهور المسرح ، لكن الفشل بات يأخذ نصيبه منه في زرع الابتسامة على وجوههم . هذا التحول يحدث في مساره المهني بينما بات عالمه الداخلي والخارجي ينهار ،تحت وطأة الحقيقة التي يرفض مواجهتها في أنه قد أصبح عاجزا عن اضحاك الجمهور،حيث تلتقي الأضواء بالظلال، وتتداخل الأصوات مع الصمت، ليقف وحيدا أمام نفسه ، قبل أن يكون الأمر مواجهة مع الجمهور . حاملا على كتفيه عبء دوره وحياته على حد سواء .
ومنذ اللحظة الأولى، يأسر العرض اهتمام المتلقي بفكرته: ممثل يقدم عرضا مسرحيا، لكنه في الوقت ذاته يعيش صراعا داخليا وخارجيا يتجاوز حدود الخشبة. هذا الإطار السردي، المعروف بـ"العرض داخل العرض"، يخلق طبقات من التأويل والتفاعل. والممثل ليس مجرد شخصية تؤدي دورا، بل هو مرآة تعكس فشل الإنسان في مواجهة ذاته. يبدأ العرض بحيوية، بينما يتحرك الممثل بمرونة على الخشبة، متنقلا بين شخصيات مختلفة، وهو يحاول أن يبدو مقنعا للمتلقي. لكن سرعان ما تتكشف هشاشته، فكل خطوة يخطوها تبدو وكأنها محاولة يائسة للهروب من الحقيقة.
تتخلل العرض خلفية قاتمة تحمل طابعا سياسيا واجتماعيا. فالحرب، ليست مجرد حدث بعيد، بل لأن حضورها يهيمن في الأفق، وينعكس على الشخصيات التي يؤديها الممثل، بما في ذلك النساء اللواتي ينتظرن عودة الرجال من الحرب . هذا السياق يضفي على العرض طابعا كونيا، حيث يصبح الممثل رمزا للإنسان المعاصر الذي يعيش في عالم مضطرب، محاط بالمخاطر الخارجية والداخلية.
ويبرز وباء كورونا معززاً حالة القلق. فالممثل يرفض فتح الباب لزوجته التي تطرق بإلحاح، خوفا من المرض الذي اجتاح البلاد. هذا الرفض ليس مجرد رد فعل عابر، بل تعبير عن عزلته المتزايدة وخوفه العميق من العالم الخارجي. الطرقات على الباب تصبح رمزا للواقع الذي يحاول الهروب منه، واقع يتمثل في زوجته، في حياته الاجتماعية، وفي فشله المهني. لكنه، بدلا من مواجهة هذا الواقع، يختار الاستمرار في عرضه المسرحي، كما لو كان الأداء هو الملاذ الوحيد المتبقي له.
في قلب العرض، تقبع شخصية الممثل الفاشل، الذي يمثل تجسيدا للإنسان المعاصر الذي يعيش حالة خداع ذاتي. إنه يحاول تقديم شيء ممتع ومسلٍ للجمهور، لكنه يفشل في إقناع نفسه. وفي كل محاولاته يبدو مقنعا وماهرا ومؤثرا تبوء بالفشل، ليس بسبب ضعف موهبته، بل لأنه يعاني من شلل نفسي واجتماعي يلازمه في كل جانب من حياته. فهو لم يعد ممثلا ناجحا، ولا زوجا ناجحا، بل مخلوقا فاشلا وبائسا ،يعيش حالة من الإنكار المستمر.
النكات التي يلقيها لا تثير الضحك، بل تقابل بالصمت من الجمهور، وهو صمت يعكس فشله في التواصل مع الآخرين. هذه الكوميديا السوداء ، والتي كان يفترض أن تكون مسلية ، تتحول إلى مصدر للسخرية من الممثل نفسه. فالجمهور لا يضحك معه، بل عليه، لأنه يجسد صورة الإنسان الذي خدع نفسه بأنه شيء ما ، على عكس ما هو عليه. حتى الاتصالات الهاتفية والطرقات على الباب، التي يفترض أنها من زوجته، يشك في صحتها، مما يكشف عن عمق انفصاله عن الواقع. أين الحقيقة؟ هذا السؤال يظل يطارده قبل أن يطارد متلقي العرض ، لكن دون إجابة واضحة.
ما يجعل هذا العرض ممتعا ومؤثرا،قدرة الممثل مريوان زنكنه على المزج بين الكوميديا والتراجيديا بطريقة تثير القلق والتأمل في آن واحد. الكوميديا هنا ليست للضحك، بل لكشف المأساة. الممثل، في محاولاته اليائسة لاستجداء ضحك الجمهور، يكشف عن وجع عميق، وجع الإنسان الذي يدرك فشله لكنه يرفض الاعتراف به. هذه الازدواجية بين الضحك والبكاء تجعل العرض تجربة إنسانية مؤثرة، تترك الجمهور في حالة من التساؤل عن الحدود بين الحقيقة والوهم.
يتركنا العرض أمام مرآة كبيرة تعكس قصة الممثل الفاشل، الى جانب قصة كل إنسان يحاول الهروب من حقيقته. إنه عرض عن الخوف والعزلة والفشل والرغبة اليائسة في أن نكون شيئا أكثر مما نحن عليه. ومن خلال شخصية الممثل، يطرح العرض أسئلة عميقة عن الهوية، عن العلاقات الإنسانية، وعن تأثير الظروف الخارجية مثل الحرب والأوبئة على النفس البشرية.
هذا العرض ليس مجرد تجربة مسرحية، بل رحلة تأملية تأخذنا إلى أعماق الذات. تذكير مؤلم بأن الحقيقة، مهما حاولنا الهروب منها، تظل واقفة خلف الباب، تطرق بإلحاح، وتنتظر لحظة المواجهة.
الديكور هنا عنصر حي يتفاعل مع الممثل ليعزز من دلالات الأحداث.هذا التوظيف الديناميكي للديكور وقطع الاكسوارات يخلق إحساسًا بأن المسرح "يتنفس" مع الممثل وليس مجرد فضاء مادي، بل فضاء نفسي يتغير مع تطور الحالة العاطفية للشخصية.مما يعمِّق فكرة العرض داخل العرض، لتبدو خشبة المسرح امتدادا لعقل الممثل المضطرب، وهذا ما قد يدفع المتلقين إلى الشعور بأنهم يتجولون داخل أفكار الممثل وصراعاته. تبدو قطع الديكور والاكسوارات شريك فاعل في الفعل الدرامي ، تتحرك وتتفاعل مع الممثل، لتعكس حالته النفسية المتقلبة. تارة تكون ملاذا يختبئ فيها، وتارة أخرى تتحول إلى عائق تحد من حركته، كما لو كانت تجسيدًا ماديًا لصراعاته الداخلية. هذا التوظيف للسينوغرافيا اضفى على العرض عمقا بصريا ودلاليا، يجعل المشاهد جزءا من تجربة الممثل المضطربة.
السينوغرافيا في العرض تعتمد على نهج متعدد الطبقات، حيث تجمع بين العناصر المادية (مثل الأثاث والإضاءة) والعناصر التكنولوجية (مثل شاشة العرض). هذا التكامل يخلق تجربة بصرية تشير إلى السياق المعقد للعرض، الذي يمزج بين الحرب، ووباء كورونا، والصراع الشخصي للممثل. أما الصوتيات، مثل طرقات الباب أو الاتصالات الهاتفية، فقد عززت من إحساس التوتر والضغط الخارجي على الممثل. مجموع هذه العناصر السينوغرافية عملت معًا لخلق فضاء مسرحي يبدو وكأنه قفص يحاصر الشخصية، مما يعكس عجزها عن الهروب من واقعها. وشاشة العرض في خلفية الخشبة كانت العنصر الأكثر بروزًا وتأثيرًا في السينوغرافيا. حيث لم تكن مجرد أداة لعرض صور أو خلفيات، بل كانت بمثابة شخصية تتفاعل مع الممثل وتؤثر في إيقاع العرض. فالشاشة تم توظيفها لتكون بمثابة نافذة إلى عقل الممثل، تكشف عن أفكاره التي لا يستطيع التعبير عنها مباشرة. فلعبت دورًا واضحا في إحضار السياق الخارجي - الاجتماعي والتاريخي والواقعي - إلى قلب العرض، من خلال عرض صور أو مقاطع تتعلق بالحرب فأصبحت جسرًا يربط بين العالم الداخلي للممثل والعالم الخارجي المضطرب.
أظهر الممثل مريوان زنكنه قدرة استثنائية على تقمص وتجسيد شخصيات متعددة، مما أضفى عمقًا وحيوية على الأداء. لقد انتقل بسلاسة بين شخصيات متنوعة، كل منها تحمل سماتها النفسية والعاطفية الخاصة، معتمدًا على تغييرات في نبرة الصوت،وملامح الوجه، وحركة الجسد. إلى جانب ذلك، جسّد شخصية الممثل المهرج بمهارة وأضاف طبقة تراجيدية للشخصية الكوميدية، جسدت الصراع الداخلي للممثل المهرج. هذا التأرجح بين الكوميديا والمأساة أظهر مرونته وقدرته على التقاط التناقضات الإنسانية. الممثل مريوان أخذ الجمهور إلى كل شخصية قدمها بصدق وإتقان.
هذا العرض تم تقديمه في كركوك والسليمانية ودربندخان وربما يعرض في مهرجان قرطاج في تونس، ومهرجان المونودراما في تركيا لاحقاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
*شاعر وناقد من كركوك