اخر الاخبار

رواية "عكاز ابليس" لـ عباس الحداد رواية مقترنة بتفاصيل خطابية معاصرة، احتشدت فيها الاحداث بوصفها نتيجة لما كانت عليه حياة الاضطراب والقتل والتهجير الذي تكرس في طبقة معينة من طبقات المجتمع العراقي على وجه التحديد، ومع ما افرزته الرواية من تراجيديا لأحداث متراتبة، فقد انطوت على مشهديات اخذت على عاتقها الحبكة السردية ببعدها البنائي للشخصية المحورية وللمكانية الواصفة والفاعلة معا، لذا نمسك بما قرأناه بوجود لعبة سردية كانت أقرب الى (دراما سرد) مع الاحتفاظ بتفاصيل محبوكة بدقة، والملفت للنظر ان الحداد لا يخلق عوالمه الروائية عبر افتراض سردي، بالعكس، يُنشأ عالمه الروائي من الواقع وما تفرزه من حقائق هي أقرب الى العالم الافتراضي، فكانت روايته هذه انعكاس لخزين واضح لنتاج اجتماعي/ حياتي/ قيمي للشر، وجاء ذلك عبر عتبة العنوان (عكاز ابليس) يأخذنا الى قناعة فحواها (ان كثافة ما ينتجه عباس الحداد ينطلق من كثافة اخلاقية عبر تساؤلات ضمنية فيها قصدية) فموضوع الأزمة (بما يحمل من بُعد آيديولوجي) هو همه الأساس، وكانت في بعض رواياته وقصصه ما يبرهن ذلك..

وعلى الرغم من وجود ثوابت متناوبة في تفاصيل الرواية وتحولات الامكنة، فقد كانت تواليات الاحداث ذات بناء عمودي متصاعد، رافقتها معالجات خاصة بالازمة ذاتها (اجتماعية .. ونفسية .. وبيئية) كلّها تكرست في بوتقة ما يسمى بـ (هيمنة الخطاب الديني السياسي) ليفرز من خلالها ثنائية (الخير والشّر) ولعل هذه من بديهيات الكتابة الرواية وما تعارفت عليه في آلية الكتابة، لكنّ الملفت للنظر ثمّة استنهاض سردي داخل الرواية، فبعد قراءة تفاصيل القتل والتهجير والأسر الذي قامت به الدواعش والذي اسفر عن قتل المهندس (حسين وزوجته) واخذ ولده الطفل الذي عاش معهم لـ(8) سنوات، ومع وقوع الطفل (سليم) غنيمة اثناء السبي الداعشي في الموصل، ومعاناته واخذ التعليمات الانتقامية والنشوء في اجواء فيها حيف عقائدي وتدريبه على قسوة القرارات في القتل والجَلد، حولته الى شخصية محورية، وعلى إثرها اخذت بنية الحدث سردا (تناوبيا) كوحدة سردية قابلة للتلقي ومستوحاة من الحقيقة، وقد اشار الناقد شجاع العاني الى أهمية هذا الاشتعال حين قال (ولا يُعد نَسَق التناوب نادرا في بناء الرواية العراقية حسب، بل وفي الرواية او القصة العربية عموما) (كتابه: البناء الفني في الرواية العربية) بمعنى ان الرواية هنا بكليتها (اولا) وبشخصيتها المحورية (ثانيا) أنابت عن القضية الكبرى في موضوعة السبي الداعشي، واعطت المغزى الدلالي لفحوى الرواية، ومن ثّم شخصية سليم/ المحورية، ومع الأخذ بخصوصية حياته وكيف عاش في تلك المدينة وكيف كان ارتباطه بشخصيات اخرى أثرت عليه بخاصة (نرجس) صديقة الطفولة و(أم خدر) المرأة التي افاضت به حنانا في طفولته..

فرضت الرواية على المتلقي التأطير المبأر في سياق سردي ضمني، وانطوت على تحولات استرجاعية واخرى تقنية، فالتحول الأول: هو من بديهيات الواقع وما نتجت عنه مرحلة الخرق الأنساني واستباحة حرمة البشر، أما التقني فهو لعبة (ما بعد سردية) وهذا ما نركز عليه نقديا، (إنَّ هذا التطور التقني يفتحُ آفاقا جديدة امام الكاتب لإبتكار اشكال جديدة من السرد تتجاوز النصوص التقليدية)(كما يقول د. ثائر العذارى في جريدة الصباح 13/ 3/ 2025)، فكانت رغبة البحث من قبل (سليم) عن (نرجس) فتحت اسلوبا في تقنية كتابة الرواية، ولم تكن الثورة الرقمية بفضائها العولمي سوى انعطافة طبيعية في تكريس السرد عبر معاصرته الأشكال الجديدة في الفكرة والأداء معا، على اعتبار ان الغور في الرواية هو الغور في كل ما تتمتع به التحولات المدينية العامة وكيفية التأثر بها عبر سياقاتها التطبيقية، ومهما كانت اشتغالات البنية السردية فهي بالتالي خاضعة لتحولات استطرادية.. لذا جاءت الرواية لتفتح شفرة البناء والتلقي عبر معاصرة الحاسوب لتأخذ الدور في التراسل والحوار.

وانطلاقاً من هذه الممارسة التي جعلت من الشخصية المحورية (سليم) أكثر حماسا في اشتغاله (الميديوي) عبر تبئير داخلي (تتساوى فيه معرفة السارد بما تعرفه الشخصية، ولا علم لديه يفوق ما تصرح به الشخصية قولا او ما تظهره من حركات وتفاعلات وملامح وجيهة).. فكانت لعبة تحول (ما بعد السرد الروائي) عبر تأطير قضية السبايا في حلقات تسع سميت بـ(حكايات سبيّة) لكنها في حقيقة الأمر مسرودات الحكي لسبيّة، او وقائع الحكي لسبيّة او حتى مذكرات الحكي لسبيّة، كان على الروائي ادراك ذلك، لأن الحكاية تستند اساسا على المخيلة والى حقائق تضاف اليها بعض الخوارق لتخضع لمعيار تلقي قابل للدهشة، خضعت ادائية التراسل بين طرفي الحوار في الحلقات التسع وأدى الى كشف ما آلت إليه نتائج السبيّ الداعشي على لسان (نرجس) وبالتالي نلمس مدى التحول المضموني في الرواية في ظل ما افرزته من احداث صادمة.

ايقاع سردي (ميلو درامي) اعطى انفعالا مفاجئا لمنولوج اكثر هدوءاً بوجود الوسيط فجاءت الحكايات التسع كأنها تتراءى مع نفسها، عن طريق المواجهة وبناء الحدث الروي/ الحكاية بآلية التلقي عن طريق نسق الكتابة، كما ان الاعترافات (مهما كانت حقيقية) اصبحت في موقع الحكاية المسرودة بشعرية الاداء والبناء السردي عن طريق الايقاع والكشف والتنوع، فإن زمن الرواية تناظر مع زمن الخطاب في وعي الكتابة الروائية ذاتها، بمعنى انك حين تقرأ تراجيديا هائمة بالانفعال وحِدّة الاحداث والكشف عن قضية فيها ازمات مصيرية، فانها في الوقت ذاته تكشف عن شتات هائل من علامات اجتمعت في اطار سردي، بعدها تُفتح نافذة للتلقي مختلفة، فكانت الحكايات التسع منافسة لما بعدها..

شهدت الرواية تحولا مشهديا عبر منولوج ثنائي بين (سليم وسلام) فبعد أنْ انهيا تناول فطورهما (قال سلام وهو يجلس على كرسي متحرك: يا صديقي، ما عليك إلا أنْ تفتح جهاز الكومبيوتر، وتدخل على نظام الكوكل، وتكتب قصص السبايا، وتدخل على الكروب، أتراه ؟ وتقرأ ما تود قراءته، هي عملية ليست صعبة، أليس كذلك ؟) المثول امام الحقيقة التي كشفتها الرواية عبر الحكايات التسع، التي تقف عند تصنيفها بعتبات سردية حساسة جدا، انطوت على تمحورات دقيقة ومهمة، منها: (ذاتوية) حين يشعر (سليم) بقلق وخوف عندما درك وجود (نرجس) على قيد الحياة.

ومنها (تذكرية) حين تظل الأحداث الأليمة تلاحقه في المخيلة وفي المنام، بخاصة فاجعة مقتل المرأة الحنونة (أم خدر) التي قامت بتربيته (يوم واجهت أم خدر الموت، لم استطع أنْ أمُدَ لها يَد المساعدة، لمْ أجرؤ). ومنها (استحضارية) حيث تلعب المخيلة في ذهنية (سليم) في استحضار تفاصيل قديمة انبثقت من صورة والده المعلقة على الحائط، وليس انتهاءً بذكرى السبي وتنظيم القاعدة، والذكرى الأرهابية، ذكرى الأيام السود التي عاشها.

رواية (عكاز ابيلس) اعطت انعطافة وافية في كتابة الوقائع بما تستفيضه من تأثيرات حساسة ودقيقة في واقعنا (الميديوي) المعاصر، رغم وجود (سارد عليم) وهنا لا بد من الامساك والاشارة الى ان لعبة السرد لا تقف عند ثوابتها المعروفة بقدر ما تُدخل في طياتها ما فُرض من تقنيات اخرى انطوت على الاضافة، بخاصة اذا ما ادركنا ان الرواية هي ابنة المدينة وكل ما تتأثر به المدينة ينعكس على الرواية.

عرض مقالات: