اخر الاخبار

“السيد والخادمة” مجموعة قصصية للكاتب الروسي الكبير ليف تولستوي اصدرتها المدى في كتاب يحتوي على ثلاثة وعشرين قصة في 496 صفحة، بترجمة الاستاذ صياح الجهيم، يتضمن المجلد مجموعة من الأقاصيص والحكايات الشعبية، ويضم المجلد الاعمال القصصية الآتية (السيد والخادم، الله والشيطان، ثلاثة أمثال، الذهب والإخوان، الجحيم الذي أُعيد بناؤُه، آسرحدون ملك أشور، العمل الموت والمرض، ثلاثة أسئلة، كورني فاسيلفييف، صلاة أُم، لماذا، التوت البري، الإلهي والبشري، مُقدمة لم تُنشر، الأحجار، أغاني القرية، نُزّل سُرّات، بوذا، كارما، 40 عاماً، أسطورة من روسيا الصغيرة، مُفرط الغلاء، حياتي).

انسانية تولستوي

لعل الانسانية هي السمة الرئيسية التي اصطبغت بها هذه القصص وهذا تحديداً ما يمتاز بها الادب الروسي الكلاسيكي بشكل عام، وادب تولستوي بشكل خاص، باعتبار منطلقاته الإنسانية في بحثه عن معنى الحياة وهدفها بالسعادة والتعاسة ومسبباتها من خلال عرضه للحكمة التي خلص اليها الكاتب في سنوات بحثه وتأمله الطويلة واجاباته الذاتية عن الاسئلة الفلسفية العميقة التي حددت الملامح الرئيسية لهذا الاديب والفيلسوف العظيم.

تولستوي مزج الخيال بالحكمة بصورة واقعية في نصوص قصصية مستسقاة من واقع الحياة الروسية البسيطة للفلاحين والمزارعين وعامة الناس، وهم يخوضون صراعهم مع الحياة، وعبر بهذه القصص عن إيمانه وقناعاته الشخصية فيما يتعلق بالعديد من المواضيع الدينية والأخلاقية والتي حاول أن ‏يقدم لها ويطرحها ويجد لها الإجابات المناسبة من خلال الحوارات الفلسفية والروحية التي زخرت بها هذه القصص.

ثلاثة امثال

في هذه القصة يدافع بشكل مباشر وصريح عن أفكاره وفلسفته في نبذ العنف حتى مع الأعداء، وعدم مواجهة الشر بالعنف المقابل، ويعتبر تولستوي ان هذا هو الطريق الوحيد لسعادة الافراد والشعوب، من خلال سرد ثلاث امثلة تتعلق بالثورة، والفن، ومراجعة الذات، ويؤكد على ان مواجهة الظلم والطغيان تكون من خلال الرحمة والصبر واعلاء المثل المسيحية الحقيقية التي جاء يسوع المخلص، هذه الفلسفة التي شكلت الخطوط العريضة لفكر وفلسفة تولستوي في الحياة واخذت طريقها فيما بعد الى العديد من قادة ومصلحي العالم كغاندي الذي اعتنق الفكرة نفسها في ثورته على الاستعمار البريطاني للهند ورفع فيها شعار اللاعنف الثوري.

 الجحيم الذي أُعيد بناؤُه

وفي هذه القصة يقدم تولستوي نظرة جريئة حول صورة النظام الديني والقائمين عليه، وكيف ان هذه الصورة في المجتمعات التي تتصف بالتدين قد خربت وحرفت تعاليمها على يد اتباع الشيطان وعبيدهم، ممن لبسوا الرداء الديني وتكلموا باسم الله، وما هم في الحقيقة سوى خدم للشيطان ووسيلته في إعادة بناء الجحيم وذلك بـ تحريف التعاليم السامية الحقيقية وتفريغها من محتواها وتحويلها الى أداة تدفع الناس الى الجحيم الذي سبق وخرب وحبس في داخله الشيطان الأكبر بعد انتصار السيد المسيح “عليه السلام” واندحار قوى الظلام امام دعوته للتسامح والرحمة، ولعل الانتقادات التي وجهها تولستوي في قصته هذه يمكن اسقاطها واعمام فكرتها على كل الأديان واختلاف مريديها من شعوب العالم.

 الشيطان يُغري والطيب يتحمل

في هذه القصة نجد مثالاً رائعاً عن الايمان والفهم الحقيقي لإرادة السماء بعيداً عن الاهواء الشخصية التي لا هدف لها سوى خدمة الشيطان باسم الدين والتدين من خلال القصة الصغيرة التي تحكي كيف ينجح الشيطان في اغواء احد الاقنان ودفعه الى مراهنة باقي الخدم بإغضاب سيدهم الذي يمتاز بالرحمة والشفقة وحسن الخلق ليثبت لهم ان اخلاقه العالية ستختفي ولن يعود لها وجود في ساعة الغضب، وتنتصر في هذه القصة إرادة الخير ويندحر فيها الشيطان بتسلطه وغروره.

 

معنى الفضيل

‏في قصة “40 عاماً يطرح تولستوي سؤالاً “هل هناك معنى أو وجود للفضيلة والأخلاق لو لم يكن هناك وجود للإله” ولعل هذا السؤال كان محل بحث العديد من فلاسفة الأخلاق والمفكرين في كل العصور، بل ان دوستويفسكي افرد له صفحات من روايته الخالدة “الأخوة كارمازوف” ليصل في جوابه الى نفس ما يصل اليه تولستوي في هذه القصة من ان وجود الفضيلة مرتبطة ارتباطا مباشرا بوجود الإله بل إن أعظم القوانين الوضعية وأكثرها صرامة لا يمكن أن تفرض الفضيلة والأخلاق في المجتمع، ولن يكون له رادع حقيقي كالايمان بالحياة الأخرى، حيث التي يحاسب‏ فيها كل الانسان عما فعلت يداه.

ويورد تولستوي مثالاً عن ذلك من خلال بطل قصته الذي يحاول أن يخبئ امواله بعيداً عن يد الاخرين، ولكنه كان دائماً ما يفشل في إيجاد هذا المكان الذي يشعره بالأمان فكان يقول” لا يمكن ان تخفي اموالك عن أناس لا اله لهم” ويورد لنا تولستوي نصاً رائعاً على لسان هذا البطل الذي لا يعرف الايمان ولكنه يدرك حاجة الانسان للإله.

إن محاولة تولستوي ارساء القيم الروحية عند القارئ، باجاباته عن الأسئلة الفلسفية العميقة في هذه المجموعة القصصية، لا تعني أنها بعيدة عن الفن الأدبي الرفيع والرائع، بل ان القارئ يجد المتعة الأدبية في العديد من الاعمال القصصية الاخرى، لكن من الصعب جداً ان يجد عند غير تولستوي مثل هذه المتعة والحكمة والايمان الحقيقي والإجابات الفلسفية العميقة، تولستوي وكتاباته افضل من كلمة منافسه الكبير دوستويفسكي الذي يقول بحقه “أن أمثال تولستوي هم معلمو المجتمع، معلمونا، ونحن مجرد تلاميذ لهم”.

عرض مقالات: