اخر الاخبار

وأبي

مثْلَ كثيرينَ

ومنذُ خروجِ الإنسانِ من الّلامرئيِّ إلى المرئيِّ

ومن منعرجاتِ المجهولِ

إلى طُرُقِ المعلومِ

ومِنْ صمتِ المستورِ

إلى صخبِ المكشوفِ

غزاهُ شيطانُ الجوعِ

ولكنْ ما ماتَ

وظلَّ يصارعُ

كي لا ييبسَ كالعشبِ

ويُحرَقَ في تنّورِ التّهميشِ

فصارَ شيوعيًّا

يرفضُ أنَ يُلتَهمَ النّاسُ

ولقد علّقَ صورةَ “لينينَ” على الحائطِ أيقونةَ ضوءٍ

تحكي عن رجلٍ مدَّ يديهِ

ليصافحَ كلَّ يدٍ

خشّنها وكَواها فاسُ

وأنا الولدُ المغرَمُ بالسُّؤْالِ

وبالكشفِ عن المخبوءِ

وعن أحشاءِ المعنى

كنتُ أسائلُ نفْسيَ :

كيفَ أتانا هذا الرّوسيُّ الخارجُ مِنْ أوردةِ الثّلجِ

ليحيا معنا

ويقاسمَنا البيتَ الطّينيَّ

وحَرَّ نهاراتِ الصّيفِ السّوريِّ

ويشربَ قهوتَهُ كلَّ صباحٍ مِنْ يدِ أمّي ساخنةً

ولهُ في حفلةِ رأسِ السّنةِ الحلوةِ بعدَ نهايةِ أخرى

في فرحٍ يُملأُ كاسُ؟

ثمَّ قرأتُ قصائدَ “بوشكينَ”

وما أبدعَهُ “غوركي”

و”بماركسَ” أُغرِمتُ

وهِمتُ بثورةِ “كاسترو”

ومناقبِ “جيفارا”

وحرقتُ صحائفَ أجدادي

وهدمتُ قلاعَ تراثي

وكسرتُ دِنانَ خموري

وانطلقتْ لي في ساحاتٍ لمْ أعرفْها أفراسُ

وغدوتُ أردِّدُ  أحاديثَ عن الآتي

كُتِبتْ بحروفٍ لمْ أُتقنْها

وبحِبرِ بلادٍ ما جبتُ شوارعَها يومًا

أو زرتُ حدائقَها

أو فيها نبتتْ لي أغراسُ

وبدأتُ أقولُ لمن عارضَني :

أُمميًّا كن

وتخلّصْ مِنْ لعنةِ جغرافيا..

 انسكبتْ كالنّارِ على مَنْ يكرهُ شكلَ سنابلِهِ

ومياهَ منابعِهِ

وشفاهَ سحائبِهِ

ويريدُ مواويلَ بنكهةِ موسيقى صاخبةٍ

فيها يُطرَدُ عن دنياهُ نعاسُ

كنْ أُمميًّا منفتِحًا

لا تغلقْ شبّاكَ رؤاكَ

وهرولْ لا تبطئْ

وارجُ لقاءَ رفاقٍ

تسهرُ معْهم في حاناتِ الصِّينِ وتشربُ بعضَ الفودكا

وافتحْ أبوابَكَ للآخرِ

شاركْهُ خبزَكَ

واحملْ عنهُ نِيرَ سنينِ القحطِ

ولقّنْهُ درسًا في محوِ خُطى تاريخِ النّايِ

وأخبرْهُ كيف بنى “ناظم حكمت” بيتَ قصائدِهِ في سجنٍ

فيهِ كلُّ قوافي الشِّعرِ تُداسُ

واقرأْ كلَّ مساءٍ مزمورًا

تكتبُهُ أنتَ

ولا تقرَبْ معبدَ كُهّانٍ

لحيتُهم يعبثُ فيها قملُ الجهلِ

ولا تطلبْ معهم ربًّا

لمْ ينقذْ “هابيلَ” مِنَ القتلِ

ولا صانَ كرومَكَ مِنْ شمسٍ غاضبةٍ حارقةٍ

أو أبعدَ عن وجهِكَ غزوَ ذبابِ الفوضى والتِّيهِ

وصرتَ وحيدًا مسجونًا

لكَ تُقلَعُ أضراسُ

لا ترجعْ للخلْفِ

تقدَّمْ

واركبْ قاربَ ذاتِكَ

وامضِ إلى حُلْمِكَ منتشيًا

واكتبْ أوراقَ بقائِكَ

علّقْها فوق جدارٍ

لا تكسرُهُ مِطرقةُ البلوى

واهربْ من أرضٍ

تنفرُ من تقبيلِ خدودِكَ

وامسحْ عنكَ غبارَ الشّكِّ

وعِشْ حُرًّا

بكَ لا تُخنَقُ أنفاسُ

كان أبي بالحقِّ شيوعيًّا

فلّاحًا

وبسيطًا مثْلَ حماماتٍ ربّاها

وأبى أنْ يذبحَها حتّى يأكلَها

حينَ اشتدَّ الجوعُ عليهِ

ومضى منشرِحَ النّفْسِ إلى قبرٍ

لمْ يمحُ ملامحَ سحنتِهِ

وبقيتُ أعلِّقُ صورتَهُ في صدري مفتخرًا

وأقولُ لكلِّ الخَلْقِ :

أبي كانَ شيوعيًّا

لمْ يمنعْ لقمةَ صحوتِهِ عن أحدٍ

وسيبقى بكتابِ الدّنيا سطرًا مقروءًا

لن تمحوَهُ ممحاةٌ جاهلةٌ أو حاقدةٌ

ولهُ لن تصمتَ أجراسُ

عرض مقالات: