اخر الاخبار

عند أوبئته من الثانوية في رحلته التي يترك فيها العنان لمخيلته أن تسرح في الفضاء المترامي المفعم بشذا المطر الهاطل قبل ليلة نهاره هذا على القرية الهاجعة كأنثى عذراء خجولة تلَّبس نظرات عشقها العذري من قبل فتاها فأطرقا معاً خفراً يتلقيان مزن غيث الفرح المغسول بأمنيات بعيدة تلتقي عند مفترق طرق متضادة يختاران في مخيلتهما طريق السعادة المؤملة، فتتشكل أمام بصيرته التي تنيف على أربعة عشر شتاء صور أبطال كتب قرأها قبل أيام فيقاسم أبا القاسم الطنبوري الذي حيّر أهل زمانه الغابر ومخيلة كامل كيلاني كاتب هذا العصر ابتلاء الرجل بحذاءه الاسطوري الذي كان لا ينفك عنه كتوأم سيامي غير مرغوب به رغم كل المحاولات المستحيلة في الخلاص منه بحيث سجلت حادثته معه كحكايات توارثتها الذاكرات والصحائف عبر تصرم العقود والقرون، وعاضد جليفر بما عاناه من رعب وخوف خلال رحلاته الأربع التي دونتها ذااكرة مجنون وممسوس بخيال صخب خلاق اسمه جوناثان سويفت والتي كتب أسفاره الأربعة تيمناً بأسفار سندباد التي دونتها أيضاً ذاكرة ممسوسة بالعشق لخيال لا يستوعبه عقل إنسان، وهو يسبق سويفت بقرون تواصلاً إلى الخيال الذي يجن به حتى الجنون بعينه، ذلكم هو خيال من تفتقت ذاكرته عن الملحمة الرافدينية الأولى والتي ما استطاعت أية ذائقة مغسولة بطوفان المخيال أن ترقى إلى العتبة الأولى لدرة الأساطير عبر الأزمان وهي تسطر رحلة الملك النهريني كلكامش الذي يعشق الخلود والذي تيقن بعد رحلاته غير المعقولة أن الخلود ليس خلود الروح والجسد بل خلود العمل الذي يختلقه والذي يبقى ذكره باقياً عبر الزمن وحتى تطأ عربة الزمن المرحلة الأخيرة ويتحول كل شيء إلى عماء وعدم، وهكذا ديدنه كل ظهيرة عندما يتوقل الطريق نحو البيت يصير سائلاً في مدرسة كتاب القصص والروايات والملاحم التي تقضقضها ذاكرته الشرهة يومياً فيذهب في المحاججة والاستنباط والاستشفاف والاختلاف مع المؤلفين، وبعد أن تنجلي المعركة –التي لو قيض لأحد أن يراه وهو يفرد ذراعيه ويتقافز كالسعدان ويصرخ كطرزان ويستدير حول نفسه كالمعتوه- لخاله مجنوناً بالتأكيد.... واستذكر وهو يتوسط أرضين كعروستين خجلتين والطلل يحمّم هامتيهما بنصاعته وبرودته وقائع المهرجان الشعري الذي انفض قبل قليل والذي شارك فيه شقيقه الأكبر وبحضور المدير والمدرسين جميعاً وطلبة المدرسة بصفوفها الخمسة عشر ومراحلها الست وبإشراف مدرسي اللغة العربية في الثانوية الأساتذة: يوسف سكريا، جميل حوراني، ومعد الجبوري أحد الشعراء الشباب البارزين على مستوى  الموصل والعراق، وتبارى الطلاب الموهوبون في ألقاء قصائدهم وهم: شقيقه زهير بهنام بردى وشاكر مجيد سيفو ونمرود قاشا.... الخ، ثم منحوهم هدايا بالمناسبة، وكان يفكر في الطريق بماهية الهدية التي حصل عليها شقيقه الأكبر، وحين وصل إلى البيت وجد شقيقه قد سبقه في الوصول وبيده كتاب أنيق يقلب أوراقه، وحالما احتل جسده الطارمة حيث الكنبة العريضة التي تواجه الحوش بشجرتيه الزيتونة والتينة وبينهما سيقان العنب المخضرة سأل شقيقه.

- ما هذا الكتاب.؟

- انه ديوان أستاذ اللغة العربية معد الجبوري.

قال له.

- للأسف إنه ليس مدرسنا.

فقال شقيقه.

- إنه يجعل الدرس يمور بالنشاط والحيوية.

سأله.

- كيف؟

- لا تحس وأنت تسمعه بأنك تسمع مادة جافة من فم مدرس مسلكي، بل هو أقرب إلينا للصديق من المدرس.

- ما اسم الديوان؟

فهتف شقيقه الأكبر بصوت جهير وهو يؤدي حركات أشبه بحركات الممثلين على المسرح.

- اعترافات المتهم الغائب.

فقال الفتي بأسى.

- أتمنى أن يدرسنا.

أجابه الشقيق الاكبر.

- هو يدرّس طلاب الثانوية، وأنت لا زلت في الأول المتوسط.

فوضع الفتى كتيب (جليفر في بلاد العمالقة) على الأريكة بحيث أن الألوان الجذابة الزاهية جلبت انتباه الأخت الصغرى شذى فأنشأت تقلب أوراقه وهي تمعن النظر في الصور بدهشة طفولية بالغة، ثم سألت الفتى.

- أحكِ لي القصة.

ابتسم الفتى بوجهها ووعدها.

- حالما نتغدى.

زارت شفتاها الطفليتان ابتسامة متألقة وهي تتعجل الغداء كي تسمع القصة العجيبة التي أسرت ذاكرتها الغضة صورها الجميلة.

وحال دخول الوالد إلى البيت عائداً من الموصل والوالدة قد أعدت المائدة للغداء هرول الشقيق الأكبر مرتقياً الدرج نحو سطح الدار وبيده الكتاب وانسل صوت الوالدة وهي تهتف به.

- العداء جاهز.

فسمعوا صوته وهو يخطو جيئة وذهاباً في سطح البيت بطرازه الشرقي القح.

- تغدوا أنتم... أنا شبعان.

وتهادى صوته العذب المنغم وهو يزاحم  صوت العندليب ويردد الفضاء رنين تلاوته للقصائد، وكانت ذائقة الفتى الشقيق وهو يجلس في الطارمة ازاء الوالد والوالدة واشقاءه الصغار تنتشى بالإلقاء الجميل للقصائد، والابتسامة تعانق وجهه وهو يجيب الوالد الذي سأل.

- ما به زهير؟

فأجابه بحرارة.

- يريد أن يصير شاعراً.

فسأل الوالد بطيبته المعهودة الممهورة بالبساطة والعفوية.

- مثل عنتر بن شداد؟.

أجابه الفتى وقد تقاطرت إلى ذائقته تفاصيل الفيلم المصري (عنترة بن شداد) الذي عرضه تلفزيون الموصل الليلة الفائتة ونال اعجاب الوالد، فأجابه والابتسامة ملاك طفولي جميل يجول في الفضاء.

- نعم بابا... زهير سيصير عنترة.

ومع نفسه همس.

- وأعداؤه أدعياء الشعر.

وحين أنهى زهير قراءته الديوان برمته بعد ساعة من الزمن، جلس جنب شقيقه على الأريكة والوالد والوالدة يرمقانه بنظرة تشي بأن عنترة استطاع أخيراً أن يحظى بعبلة الشعر والسحر.

****************

ربيع عام 1971

عرض مقالات: