اخر الاخبار

كان الشاعر العراقي المعاصر، مظفر النواب، يشبه الشاعر العربي القديم، أبا العلاء المعري، في بعض (صفاته الشخصية)، كما يشبهه في بعض عموميات شعره او في بعض قصائده، كذلك في بعض كلامه الطبيعي المتواتر في نثر كل واحد منهما.

لاحظت في أثناء كتابته بعض قصائده في نقرة السلمان ان مظفر النواب يعتمد، شعرياً، على استعمال كلمات مختلفة لإيصال فكرته المعينة من قبله. كما كان في سلوكه الأدبي  العام، ساخراً باستخدام الشعر الكمي، المعلن بجميع أوتاده ومعانيه. كانت معاني أشعاره، ثابتة أو متغيرة، من كثير من القضايا الاجتماعية، كما كان يسخر منها (المعري) أو يكون قريباً من السخرية بها.  بالرغم من انني لا أعلم ان ابا العلاء المعري قد استخدم او لم يستخدم (وسيلة الضغط الصوتية) عند إلقاء بعض قصائده، لكنني اعلم كل العلم عن (الضغط الإيقاعي) الكامل والمنسق تنسيقاً وافياً، حسب ما تحسه أذناه في حالات تنظيم أبيات قصائده، التي يمارسها الشاعر مظفر النواب حيث يسود عنده هذا (الضغط) حينما نلاحظه يقرأ او يكتب إحدى قصائده. لاحظته على نحو ملح للغاية في ارتكاز قراءاته الشعرية أيام كنّا في (النقرة) ، حتى كلامه النثري كان مضغوطاً.  انه يهتم اهتماماً كبيراً بمثل هذه السمة. سألته ذات يوم : هل ان الشاعر المعري يستخدم طرق الضغط  نفسها، اخبرني انه لا علم لديه عن ذلك.

خذ مثلاً قصيدة نوابية قصيرة من بضعة أبيات، عنوانها (قمم).. كل بيت من بنائها يتضمن (بضع كلمات) يسخر بها، بشدة وقسوة، بالملوك والرؤساء العرب الذين يجتمعون في (مؤتمرات القمم) دورياً، مرة كل عام او عامين في إحدى العواصم العربية. كان من طبع الرؤساء والملوك ان يمارسوا اشكالاً من  من طباعهم في (التفاضل) و( التعالي) و(التكامل) في الأخلاق و(المساواة) في حبها.

كانت (ملكة السخرية) في بعض اشعار وقصائد مظفر النواب قد نتجت عن شعوره بحالتين سيكولوجيتين. الاولى ان الملوك والرؤساء العرب يستحقون السخرية والاستخفاف. اما الحالة الثانية فهي ان الناس من المستمعين لإشعار الشاعر (النواب) يريدون هذا الشكل من الشعر (الساخر) لأنهم يتأثرون جداً بسماع مثل هذا الشعر الساخر الجريء.. به يسترجعون كرامتهم المسحوقة بأحذية الحكام المضحكين. ربما أدرك مظفر النواب عند دراسته سيرة حياة ابي العلاء انه يعد الغرور في الموقف تجاه الحكام كما ادرك ان ابي العلاء قد استخدم (العبث) وسيلة اضحاك الجماهير المستمعة للأشعار. كذلك تظل جرثومة الضحك متواصلة بما يتفرع منها كل مضحك في الاقوال والأفعال. حتى ان حالة الضحك مفيد استعمالها مع الأطفال لإضحاكهم.   

ان إلحاح مظفر النواب يتم بطريق من طرق السخرية يعطيه إمكانية الدفاع عن حقوق المحكومين والمظلومين، حيث يرغم المحكومون المظلومون على ان يعدوا السخرية نتيجة من نتائج الدفاع عن حقوقهم تقدرها مخيلتهم بمعايير قيمية أخلاقية، حسب الفهم العمومي لنصوص (العقد الاجتماعي) ولجميع الحقوق الدستورية بمزيد من المعاناة واليأس  الفردي  وانواع مختلفة من حالات اليأس الاجتماعي، بعد انتهاء ضروب الصبر الطويل، الأليم. كان كل واحد منهما شديد التمسك والإحتفاظ بكرامته، من ناحية اخرى نجد الشاعر النواب يواجه حيزاً اجتماعياً بشكلين متناقضين. الشكل الأول هو الصراع السلمي - الشعري بين الشاعر النواب والحكام العرب. اما الشكل الثاني فهو انتقاد بعض اصحاب مظفر النواب، الذين يتصورون أشياءً من أبيات شعرية ينتقد فيها الشاعر النواب بانه (اعتدى) على القادة العرب وكثير منهم يعتبرونه (سباب وشتيمة) على ان مظفر لم يمارس الشتيمة والسباب.. أنه نقد بمستوىً لاذع. قال ويقول كلمات ساخرة، بحق من يستاهل من الزعماء العرب، وأراد أن يسمعوا بآذانهم ما يقال عنهم من قبل شاعر من شعراء العصر الحديث. لم يرغب ولم يمارس أية سخرية مثلاً بفلسفة نيتشة المثالية، التي لا يحبها ولا يؤمن بها. لم ينتقد أية ثقافة تحتية خاصة بالشعوب العربية المحكومة... لم يمس الحوافز او العقوبات الاجتماعية، المنطلقة من القوانين  الأصولية، وهي الحوافز والعقوبات، التي أول من ينحرف عنها هم القادة الحكام..

لم تأسره  دعوى  من شعراء شعبيين عراقيين يدعون انهم انقذوا الشعر الشعبي من الظلمات قبل مظفر النواب. كما كان أسلافه  يدعون. لم يرد ولم (يسب) تلك الفئة من الشعراء الشعبيين ومن شعراء اللغة الفصحى، ايضاً حيث يتحدثون او يكتبون وهم مليئين بالغرور. صمت الشاعر النواب عن الكثير من الشتائم والسباب الموجهة اليه من دون ان يرد عليها. كان  يستفيد من آراء كل ناقد لأشعاره ومن قبل كل مفكر وكل ذي شعور. حين زارالولايات المتحدة الأمريكية   بضيافة الدكتور عزيز الشيباني ( طبيب  الاعصاب) كان قد طلب منه تدبير مقابلة الفيلسوف الرأسمالي الأمريكي  نعوم  تشومسكي  لسماع رأيه في أوضاع إنسانية عمومية. عدّ مثل هذا اللقاء بمثل هذه الشخصية من الاعمال الملحة في زيارته المذكورة. حين قام د. عزيز بمخابرة تشومسكي ووجد عنده ترحيباً سريعاً ورغبة حقيقية في اجراء حوار مطول ,اخبره انها فرصة مناسبة ومفيدة له ايضا لانه سمع ان مظفر النواب هو شاعر عراقي مثير للجدل. ظفر النواب بهذا اللقاء كما ظفر بها تشومسكي. تحدثا بموضوعات مختلفة من دون ان (يسخر) به الشاعر الساخر مظفر النواب.

عرض مقالات: