اخر الاخبار

اثناء زيارتي الاخيرة الى برلين/ المانيا لمشاهدة معرض «سامراء: مركز العالم»، المعرض الذي نظمه متحف <بيرغامون> البرليني عن المدينة المهتم بها وبعمارتها شخصياً، في الوقت الحاضر (هي التي اتطلع الى تأليف كتاب عن عمرانيتها الرائدة بالمستقبل القريب). وتزامناُ مع وجودي  في العاصمة الالمانية سعيت وراء المرور على معالم برلين المعمارية المهمة، التى عدت بعضها بمثابة «منابت» و»احداث» و»لحظات» جوهرية في المشهد المعماري وخطابه. واحدى تلك اللحظات الابداعية لعمارة الحداثة هو «مبنى التوربينات» الخاص بشركة A.E.G. والمنفذ عام 1909 في احد احياء مدينة برلين، والمصمم من قبل المعمار  «بيتر بهرنس» <او «بيتر بيرنز»، كما يكتب احياناً> (1868 – 1940) Peter Behrens. ولئن كان اسم المعمار الالماني، الآن، غير معروف بما فيه الكفاية للكثيرين، وخصوصا للمعماريين الشباب، فان قيمته الابدعية واثره المهم وانجازاته المميزة والرائدة لا يمكن ان تزول، وتبقى من الاحداث اللافتة في تاريخ العمارة والتصميم ولاسيما «عمارة الحداثة» منها.  فالمعمار الالماني القدير يُعّد من قبل كثر من الدارسيين، مؤسس لما يعرف بـ «التصميم الصناعي» Industrial Design  ورائدا له؛ وهو  القائل من ان «.. التصميم لا يتعلق بتزيين الاشكال الوظيفية. انه يتعلق باجتراح اشكال تكون متوافقة مع خصوصية الاشياء وطبيعتها، وفي نفس الوقت تظهر الاستفادة من  التقنيات الجديدة». واود قبل الحديث عن عمارة «مبنى التوربينات» اياه، ان اتكلم ولو بعجالة، عن المعمار نفسه، وأهمية ما مثل من دور رائد وهام عند اعتاب بزوغ الحداثة المعمارية في بدء السنين الاولى من القرن العشرين.

تمثل المدرسة المعمارية الالمانية حالة استثنائية في مهام ترسيخ قيم التجديد والتغيير المعماريين. اذ كانت خصائص تلك المدرسة تولى اهتماما زائدا للجانب الوظيفي والنفعي للمنتج المعماري. هذا لا يعني بان المدراس الاوربية الآخرى المهتمة في التغيير المعماري وحداثته، لم تعر قدراً من الانتباه الى الوظيفية، وانما نود القول بان ماقدمه الالمان من جهد ابداعي خاص في هذا الجانب، كان متماهياً مع خصوصية «ذهنية» الالمان وسلوكيتهم وثقافتهم المهتمة، تقليدياً، بالجانب الوظيفي/ النفعي  للامور، والذي تميز به عطاء الالمان عن غيرهم.  وتشاء الصدف السعيدة، بتواجد مجموعة من المعماريين الالمان المبدعين في آن واحد، في مستهل سنين القرن الماضي، الذين تبنوا  عملية التجديد والتغيير وارساء قيم الحداثة في الممارسة المعمارية، جاعلين من تلك القيم   بمثابة اهداف وغايات مهنية لنتاجهم التصميمي. وكان «بيتر بهرنس واحدا منهم، بل ربما اشهرهم في هذا المجال، خصوصا بعد ان اقترن اسمه، ايضاً، بتأسيس مفهوم «التصميم الصناعي» كما اشرنا قبل قليل.

في كتابي «مئة عام من عمارة الحداثة» الصادر عن منشورات المدى في سنة 2009، اشرت الى دور واهمية «بيتر بهرنس»، عندما كتبت «.. لا يمكن تحاشي عدم ذكر نتاج شخصية مهمة في المشهد المعماري لفترة ما قبل الحرب العالمية الاولى كشخصية «بيتر بهرنس»: المعمار والفنان الالماني وأحد مؤسسي ورائد حقل ابداعي جديد هو «التصميم الصناعي». في عام 1907 دعت الشركة الكهربائية الالمانية المعروفة A. E. G. «بهرنس» للعمل لديها في مهام إضفاء لمسات فنية على اشكال العُدد الكهربائية التى تنتجها الشركة، مثل المراوح والمصابيح الخ.. ابتدأ «بهرنس» عمله في الشركة مكرساً اسلوبا تصميميا جديداً، يطمح به اجراء قطيعة تامة مع تقاليد الممارسات التى كانت سائدة قبله، والمنطوية على وجوب تشكيل المنتجات لصناعية بموتيفات زخرفية وتزيينية، ساعياً الى منح تلك المنتوجات شكلاً مميزاً، كاشفاً عن الوسائل الفنية الطبيعة التركيبية لتلك المنتوجات والتأكيد على منطقية العامل التقني في انتاجها. وبفضل نشاطه الفني بدت منتوجات شركة  A. E. G. مميزة عن المنتوجات الكهربائية الآخرى بأشكالها المعبرة والخاصة. وبفضل هذة الاجراءات ايضاً نالت منتوجات الشركة نجاحاً تجارياً واسعاً؛ كما أفضت هذة المداخلة الفنية من قبل المعمار الى الاعتراف بضرورة وأهمية النشاط الفني – التصميمي ودوره في عمليات الانتاج الصناعي الحديث.». (مئة عام..، دمشق، 2009، ص. 42).

لم يقتصر نشاط «بهرنس» في شركة < أي، إي. جي> على العمل على العمل في الجانب الفني فقط، وإنما شمل نشاطه ايضاً إعداد تصاميم مبانِ صناعية مهمة وضخمة للشركة ذاتها. ويمكن بسهولة تأشير حضور عامل الخصوصية الوظيفية في عمارة المباني التى صممها «بهرنس»، والارتقاء بهذا العامل ليكون معياراً تصميميا اساسياً في معالجات عمارة تلك المنشأت الصناعية المشيدة. ويعتبر كشف خصوصية المباني الصناعية والإفصاح عن مكوناتها الوظيفية بواسطة الوسائل التصميمية بمثابة مساهمة حقيقية ومهمة للمعمار «بيتر بهرنس» في تطور  عمارة الحداثة.

يعد «مبنى التوربينات» الخاص بشركة <أي. إي. جي> A. E. G. (1909) في برلين (والذي زرته مؤخراً  بصحبة زوجتي وابنتي المعمارية، مع نادية العبيدي : «طالبتي» السابقة المقيمة في برلين ومعمارة أحدى  دوائر بلدية برلين، التى صاحبتنا وسهلت علينا تفقد وزيارة بعض المباني البرلينية المهمة) يعد من المباني المميزة في تلك الفترة الزمنية من نشاط «بيتر بهرنس» المعماري. فالسطوح الزجاجية الواسعة في الواجهة الامامية منه وكذلك  التغليف الزجاجي الشامل للفتحات المحصورة بين المساند في الواجهتين الجانبيتين بالاضافة الى الشكل المميز للسقف، الذي تبعت هيئته خطوط هيئة التراكيب الحديدية الحاملة؛ كل ذلك منح المبنى «فورماً» معبراً وخاصاً لا يشبه البتة أشكال المباني المماثلة والمصممة من قبل الاخرين. بيد ان «بهرنس» رغم نزعاته الطليعية لا يقدر تماما، بل ليس في وسعه التخلي عن بعض التصورات المألوفة والشائعة في مفردات لغة المعالجات التكوينية للمباني المشيدة وقتذاك، فمثلاً يلجأ في عمارة «مبنى التوربينات» ذاتها الى  «تمتين»زوايا المنشأ بكتلة آجرية محززة، والتى لا يمكن تبريرها إنشائياً. ذلك لأن التركيب الانشائي معمول من مساند حديدية متماثلة. في كثير من المباني المصممة من قبل «بيتر بهرنس» يمكن للمرء ان يلاحظ تجاور الفعالية الابداعية الجديدة والواضحة مع استخدمات العناصر التقليدية البنائية في معالجات المباني التى نفذها المعمار في تلك الفترة.

تجدر الاشارة إلى ان إنتاج «بهرنس» – الطليعي لعب نوعا ما دوراً مهماً في تكريس المبادئ الجديدة للعمارة الحديثة. كما ان مكتبه أهل في حينها معماريين شباب قُدّر لهم  أن يكونوا فيما بعد رواداً لعمارة الحداثة. ففي اروقة مكتبه الاستشاري ذاته، وقبل نشوب الحرب الكونية الاولى، تَدرب «لوكوربوزيه» و»لودفيك ميس فان دير رّو»، كما تدرب فيه  ايضا «فالتر غروبيوس».

عندما كنت بالقرب من المبنى، المس جدرانه الزجاجية، واتمعن كثيراً في ما اجترحه لنا «بيتر يهرنس» من تحفة معمارية، كنت أستعيد صدى كلامي عن «مبنى التوربينات» الذي كررته مرارا على مسامع طلابي في جامعة بغداد، حينما نصل واياهم عند الحديث عن عمارة الحداثة. وها انا، مرة آخرى، اقف متأملا أمام تلك «اللحظة» الإبداعية التى قُدّر لها أن تكون منبتاً ومصدراً لمفهوم جديد، سيغير كل القناعات السابقة عن معنى الفعل المعماري وجدواه. وسوف تظل هذة اللحظة الإبداعية رغم مرور سنين عديدة على «ولادتها» ذات قوة حضورية بالغة مشرعة نحو آفاق معرفية جديدة، وان يكون هذا المبنى حاضنة لها ومؤشرا لبزوغها التجديدي. من هنا تنبع خصوصية عمارة «مبنى التوربينات» تلك الخصوصية التى منحت هذا المنشأ فرادته. ولئن تجاهل، اليوم، بعض السابلة الذين يمرون بمحاذاة ذلك المبنى العتيد الواقع في شارع «هو تينشتراسه»  Huttenstrasse ولم يعيروا اهتماما يليق به (بحكم عدم معرفتهم الكافية بقيمة ذلك المبنى وما يمثله من اهمية)؛ فان ذلك لا يقلل باي حال من الاحوال من قدر  هذا المنشأ ودوره المؤسس الذي لعبه باجتهاد في تكريس قيم عمارة الحداثة. بالنسبة اليً، يبقى هذا المبنى  يمثل «لحظة بزوغ» عمارة الحداثة، انه تماما وكما وصفه احد المعماريين الالمان من انه<.. « أصدار «   Up-to dateجديد  من «البارثنون»>! ومن هنا تلك المتعة المعرفية التى تنشرها تلك اللحظة الابداعية المتمثلة بهذا المبنى، اللحظة التى ذهبت بعيداً وبجرأة نادرة  باتجاه بلاغة معمارية جديدة، افضت في الاخير لتمكين عمارة الحداثة لتكون احدى الظواهر الابداعية المهمة في المشهد المعماري والثقافي في القرن العشرين!

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*معماري وأكاديمي عراقي مقيم في الدنمارك.

عرض مقالات: