اخر الاخبار

ما نعنيه بالإمساك بالنص ونحن نقرأ نصوص القاص(حمودي الكناني/مُديةُ الحكايا)،  هو قدرة الاستقرار على الشروط الموجبة في كتابة جنس القصة القصيرة جداً والتمتع بحرية الكتابة وفضاءها. وفيما نقرأ نبتعد قدر الإمكان عن الشروط والموجبات في صناعة النص،  منطلقين من أن المبدع في الكتابة يختار النمط المناسب لما يكتب ويعمل بمثابرة لتأسيس توجهه الخاص، أي هويته الإبداعية عن طريق تحقيق هوية نصه التي ترتبط بالذاتي المثابر. إذاً هناك شروط ذاتية يقابلها موجبات موضوعية. و(الكناني) كتب في هذا الجنس،  وتميّز به من اعتبار فهمه لوظيفته في الكتابة من جهة،  ولإطلاق صوته المحتج على ما يرى ويحس من جهة أُخرى. في مجموعته؛نجده ينطلق من ثراء الكتاب ليُعلن عن موّقفه،  كوّنها جملة فيها إصرار على المواجهة. كذلك تنطوي على ربط بين الحكي وصلابة فعل المدية، بر تسطير محتوى النصوص على انفراد. فمفردة(الحكايا) توصيف لمدية الكلام وحدته الكاشفة عن الموقف المبدئي الذي يؤسس لموقف فكري ذاتي يشمل كل محركات الواقع وينطلق من تأثير الجمع الاجتماعي. لذا نجد في النصوص مجموعة أغراض سردية مكثفة لا تستدعي الاستفاضة،  بقدر ما ترمي للإيجاز والتكثيف، فنصه غير نص أقرانه، ابتداء من (إبراهيم أحمد، خالد حبيب الراوي، حنون مجيد، أحمد خلف، هيثم بهنام بردى، حسب الله يحبى، حمدي مخلف الحديثي، عبد الكريم السامر، نهار حسب الله) على سبيل المثال لا الحصر. فهؤلاء نخبة ابتدأت في كتابة هذا الجنس من منطلق تأسيس الخصائص الذاتية، وهم يقفون مع(محمود شُقير،  محمد عيتاني) مثلاً في هذا التأسيس، وطرح رؤيته القارّة لكتابة الجنس.

في نصوص القاص تباينت الإيقاعات (الأثر)الذي يتركه كل نص، سواء ضمن بنائه الفني أو الموضوعي، وتأثيره على المتلقي.فهو إيقاع سردي له حمولاته لبث روح الاحتجاج،  لا على وفق موّقف أيديولوجي،  وإنما على وفق منظور أخلاقي. ولعل جميع النصوص تبث دروساً ذات فائدة في إثارة الانتباه وحشد المواقف من باب أخلاقي.كما هي صورة ترحيل العقل في قصة (اللا توافق) ومحاولة حصره في نفق الرؤى المقابلة والمختلفة.وفي نص(زوّرق) نُحال إلى المفارقة في العيش. فالمقبرة هنا ليست إشارة إلى عدم مطلق، بقدر ما هي إشارة إلى واقع حياتي.فمجاز التسمية هنا يعمل على كشف التفاوت في العيش تحت نير نظام التعسف والجوّر ويكون الصراع بين الجمال والقبح صيرورة النص في (جاذبية) فبين رشاقة وجمال الفراشة، وعفن الثمرة بون شاسع.لكن خشونة العفن انقضّت على جمال الوجود ورشاقته. تلك هي حكمة النص التي نجدها كثيرة في النثار السردي عند الحكيم (احيقار) في نص (انعكاس) تجتمع كل مناقضات الوجود، سواء في صوت الغربان أو في مواقف  الانتهازيين. حيث خلق الكاتب من نصه تلوين مكثف كشف عن تناقض الواقع ببنيته السلبية.وعلى نفس الوتيرة من الضرب النقدي كان في قصة(كراسي).أما نص (صالة عرض)، فقد كشف الصورة الحياتية، لاسيّما الاخصاء بكل تشكيلاته فبين هذا التناقض وبين النماء وخصب الحياة بوّن شاسع.

في (حيّطة) تضعنا الاشارتين الرمزيتين(المنجل والمطرقة) وسط خراب الوجود الذي مثّله الكاتب بالفراغ.ففي الوجود فراغ هائل من الصعود بالواقع نحو تخوم الحياة السعيدة. ولعل القائل بهاذين الرمزين ليؤكد على عدم وجود من يمكّنه ومن يستطيع ملء الفراغ الحاصل. هذه الثيمة جمع الكاتب كل قدرته الفنية لقول بلاغي محكم.في قصة(مشهد)إذ تضافرت وحدات النص كي تقدم مشهداً تراجيدياً، ليس على صعيد ما اعتدنا الفهم للتراجيديا، وإنما في كثافة الحزن الذي انتاب المعلم، وهو يحسب نظرات من يحصون عمره. ورمز النظارات في بلاغة أسلوبية.في (نقر) تجسيد لخطل الحياة. وما مفردة (طيط) سوى صوت السخرية من الواقع الذي تحوّل إلى سفاهة مركزة وقبيحة.في (تعويض) صورتين للمفارقة بين الغياب والحضور. وفي رأي الكاتب الذي هو رأينا أيضاً، حمولة تزوير الحقيقة.فبين سارق حق الآخرين في التعويض، وبين سارق الأكفان، منطق اللصوصية الواضح.أما البلاغة في (ماء مقطّر) فكامنة في الظواهر المرّة التي انعكس تأثيرها بصورة الخراب ولما كانت صورة اغتصاب الرقيم الطيني ضمن حساب التجاوز والسرقة،  فقد اتكأ عليه النص عبر بيع ماء الوجه، الذي هو فحوى قراءة الاثارية لما شاهدت.فسرقتنا لمفردات الأثار سواء في المتاحف أو المواقع أتت وفق مخطط منظم وعشوائي،  لكن مركز الاغتصاب انصّب على الربحية بالتزام التخريب لثروة البلد. والكاتب لم يدخل إلى تفاصيل ما نراه بإيجاز، بل شفّر قوله السردي. في (مكان) تتجلى فيه حكمة تأسيس حراك العقل في عبارة (ليس المهم أن تعرف الجميع، بل المهم أن تجعل الجميع يعرفونك).هذه الحكمة تندرج في حقل بناء الذات معرفياً،  وعدم الاهتمام بالعثرات التي يضعها الآخرون في الطريق.

لقد كان اهتمام القاص بالبنى الفنية لكتابة النص أهم المعالم في الكتاب القصصي. ومنها الإيجاز والتكثيف والمفارقة والتركيز، واستعمال أقصر الجمل القادرة على عكس الحقائق عبر تشفيرها المتمكن من التعبير بسهولة وجزالة.إن الاهتمام ببناء النص الذي ينتمي إلى جنس القصة القصيرة جداً، يعني الاحتكام إلى الشرط الذاتي الذي تطرقنا إليه في مستهل مداخلتنا هذه. أي يضع الكاتب نُصب عينه وهو يمارس الكتابة، أن يؤسس لنظراته وتوجهاته في الكتابة.و(الكناني) كما نرى التزم بهذا الشرط المتغيّر من كاتب إلى آخر، سواء في هذه المجموعة  أو التي سبقتها (آخر المطاف....وأولي).ذلك كنه كاتب نص سردي مكثف، معني بتقديم ما يواكب معرفته المتنامية بين حقلين زمنيين.إذ يقرر ككاتب تقديم ما يتجاوز الخطوات التي أسس  عليها رؤاه وحرفته.نرى أننا بقراءة المجموعة هذه وضعنا مدركنا في القراءة ضمن حقل التجاوز الذي عقدته المقارنة والفحص.وهذه ميّزة يتحلى فيها من يحترم الكتابة ويقدسها كمنهج حياة ووجود.

عرض مقالات: