اخر الاخبار

هل  تورّخ رواية “بيت الجن” للروائي عباس الحداد ** لمرحلة معينة من تاريخ العراق السياسي ؟ وان كانت كذلك، فهل رواية تسجيلية؟ وان كانت غير ذلك، فهل تجاوزت واقعية الواقع بالتخييل؟ وإن كانت كذلك، فما الامتياز الذي تنوء به هذه الرواية ؟ وإلا  ما تعليل التفكّك الروائي بدلالة التفكّك السياسي ؟

ان هذه الرواية قائمة على التداعي الحر لتكسير آلية الذاكرة، وخلط التركيب الزماني والمكاني للشخصيات والاحداث، فإن الرواية لاتورّخ بصيغة التحقيب الزمني لمرحلة السقوط السياسي عام 2003، وإنما تقوم بتكسير الزمن الخطي للوقائع عن طريق تقطيع (ارتباط السابق باللاحق، وتحطيم التطابق الحرفي بين السرد والواقعية، بل وتقوم بتدمير التسلسل المنطقي للأحداث)، وذلك لتخليق بنية روائية مفككة، للدلالة على تفكك الواقع الاجتماعي الناتج عن فوضى عائمة في الواقع، وهي فوضى تسبق استقرار أي نظام سياسي جديد، وبذا تستدعي الرواية الى  ذهن القارئ ما كان يجري في القاع الاجتماعي من تقلبات وصراعات تتمظهر على سطح الواقع بدلالات جافة.

لهذا نحن إزاء رواية واقعية، ولكنها تتشكل بصيغ مضادة للواقع، لترتقي بالرموز الواقعية الى مرموزات تعبيرية مثيرة لمرارة السخرية القائمة على المفاكهة السوداء:

  • بيت الجن – المعتقل؟
  • ألف ليلة وليلة – ثلاث سنوات من السجن؟
  • الحجي - مدير السجن؟
  • الشيخ قاسم – رجل دين متعدد الزيجات؟
  • بوبي – الكلب المدلل في التحقيق؟

من هنا تسعى الرواية الى تحقيق حيازة جديدة من إمتلاك القدرة والامكانية على تأسيس نوع من المتخيل الميتا سردي لمرحلة ما بعد السقوط السياسي، مرورا ً بتفكك النسيج الاجتماعي حتى انتفاضة الشباب الشعبية في ساحة التحرير، وما تعرضوا له من إعتقالات عشوائية وإغتيالات سياسية.

منذ البدء، يختزل الفصل رقم (1) في الرواية أهم النقاط المفصلية لفوضى النظام السياسي:

  • “الكل مراقب وتحت السيطرة“الرواية / ص 2.
  • أتساءل بحيرة لانهاية لها لماذا دفع بي لأتعفن خلف القضبان لألف ليلة وليلة“الرواية / ص 10.
  • القرار الحتمي الذي إتخذته في لحظة صفاء: الهروب، فالهروب على الرغم من لا جدواه“الرواية / ص 9.
  • “أزلام الحجي لم يتركوا لي خيارات كثيرة كي أختار” فقد“حاصروني في زاوية ميتة“الرواية / ص 16.

ولكن من أكثر التساؤلات المثيرة للقلق السياسي – الوجودي:

  • “ما الذي يحدث لي ؟“الرواية / ص 9.

ونوجِّه عناية القارئ الى ان جاسم راهي – الشخصية المركزية للرواية تذكّرنا ببطل كافكا في رواية “القلعة“، ولكن ليس بالمعنى المحاكي، وانما بالمعنى الدلالي الدال على الوعي الروائي بقوى سرية غامضة ومجهولة، تقود الى مصائر(غامضة ومجهولة) أيضا ً:

-” فوجئت بأربعة مسلحين غلاظ، ينزلون من سيارة بيكب حديثة، وبسرعة الذئاب، قيدوا يدي بسلك الى الخلف وغطوا رأسي بقماشة سوداء / ترى  من هؤلاء ؟ وما الذي يريدونه مني ؟ وما الجرم الذي فعلته ليكيدوا لي ؟“الرواية / ص 20.

وبذا نحن إزاء رواية لا تسمِّي الاشياء بأسمائها الواقعية، وانما تؤسس لشفرات مضمرة بدلالات صادمة للوعي القائم:

  • انني لا أعرف حتى هذه اللحظة لِم أُلقي القبض عليَّ مساء ذلك اليوم من شباط ؟ ومَن هي الجهة التي كانت تقف وراء هذه الفعلة، والتي كلفتني بما يزيد على الثلاث سنوات من عمري، مهملا ً بقبو تلفّه الظلمة طوال النهار، ومتروكا ً كبضاعة فاسدة“الرواية/ ص 27.
  • “لا أعرف المكان، اخذوني من الشارع معصوب العينين وأخرجوني وحيدا ً في مكان على أطراف صحراء، مكان لا يعلم إلا ّ الله بمكانه“الرواية / ص115 .

وتقوم الرواية بتشريح شفرات هذا الكابوس الكافكوي الى أوصال (مقطّعة – مرقمة). دالة على أفعال مبنية للمجهول، ولكنها دالة دلالة قاطعة على معلومات واضحة، وهنا تكمن روائية هذه الرواية في كيفية صياغىة بلاغة الدال الروائي من دون مدلول مباشر.

ان التفكّك الروائي دال على تفكك سياسي خلخل البنى التحتانية للمجتمع العراقي، فالرواية تبتدئ من حيث تنتهي على نحو مفارق لرواية النمط الواحد الذي تنتمي إليه، وقد أطاح الروائي بقواعد الكتابة الروائية بدلالة ان الفصل  رقم (1) جامع مانع للغامض والمجهول والمعلوم كقاسم مشترك بين فصول الرواية الأخرى.

ويتضمن الفصل رقم (1) من الرواية أهم نوايا وتوجهات جاسم راهي:

-(قرار الهجرة/ الكتابة عن تجربته في السجن/ أزلام الحجي/ الرجل الغريب الذي تبنى هجرته خارج البلاد/ إئتمان أبنته الوحيدة زينب على أوراقه      الخاصة).

ويمكن أن نعدّ هذه النوايا والتوجهات بمثابة مفاتيح شارحة لتدوير شفرات الرواية، وخاصة ما يتعلّق منها بالمعتقل الصحراوي:

  • “سميناه انا ورفاقي“بيت الجن“الرواية/ ص 5.

وتنتهي الرواية بالفصل الأخير رقم (23) ُ لملء الفجوات والشواغر بدلالات جديدة لفك الالتباس بين الواقع والتخييل، وذلك بالكشف عما يسميه الروائي      بـ (لمرحلة الثانية من إبادتنا“الرواية / ص173، والتفكير بالهروب الى بلد آخر، بعد ان قتلوا رفاقه سلام ونوقل وحيدر القبطان وآخرين.

وقد تنبّه جاسم راهي الى ان السائق العجوز أو ما يسميه الروائي بـ“الرجل الغامض“الذي تبنى فكرة هروبه الى الخارج - قد خدعه، حيث شاء ان يقوده الى“بيت الجن - المعتقل“ثانية عبر طريق صحراوي، فتحول كل شيء الى حالة اضطراب، حتى تبدّد الحلم الوردي الذي رسمه في ذهنه:

  • إنحرفت بنا السيارة، وإبتعدت عن الطريق الاسفلتي، وراحت تتقلب على الأرض الرملية، وأنا مازلت أقبض على رقبته الباردة“الرواية / ص 181.

ثم يعود الى المدينة بعد القضاء عليه، ليرى الشباب عن بعد، وهم“يرفعون عصيهم الغليضة بوجوه الرجال الغامضين“الرواية/ ص 182.

وتنتهي الرواية من حيث تبتدئ بلحظة تنوير شارحة للقارئ فك ما تبقى من الالتباس بين الواقع والتخييل، وذلك من خلال الكشف عما يسميه الروائي بـ“المرحلة الثانية“حيث كان جاسم راهي بحاجة الى تدوين ما رآه وما سمعه، وما تعرّض له في“بيت الجن”  عبر لعبة ميتا سردية، وخاصة بعد أن وجد في الكتابة ملاذه الوحيد:

  • “سأرمّم به – ما هٌدِّم، وما هدِّم في داخلي ليس قليلا ً“الرواية / ص 73.

ولأن تجربة جاسم راهي في“بيت الجن“محكومة بوعي معذّب بالألم والتعذيب والأسى والمرارة، فقد راح يفكر كيف يكتب ما تبقى من الأوراق:

  • أشعر ان رأسي قد تضخم وافكاري مشوشة، حزينة لا يجمعها جامع، ووهنت عزيمتي في كتابة باقي الاوراق“للرواية/ ص 174.

وعلى الرغم من ذلك فقد دوّن كل عذاباته ومخاوفه طوال الألف ليلة وليلة، وكأنه أزاح عن صدره كابوسا ً ثقيلا ً، حتى شعر بالزهو والراحة، وكأنه:

  • “كمن ودّع أبطاله ورفاقه الذين تركهم هناك في بيت الجن“الرواية/ ص 56.

ولم يكف جاسم راهي عن محاولة تدوين تجربته في السجن بأفق آخر من الكتابة ؛ وكيف تتقاطع فيها حيوات الحياة مع كوابيس الواقع عبر تداعيات لا شعورية أولا ً، وخلط الشخصيات والاحداث بين السرد والميتا سرد ثانيا:

  • “الجماعة ياصديقي خلطوا الاوراق، زيفوا الوقائع، لعبوا بالتاريخ لعب الكرة، وبانت الحقيقة التي تشير الى نواياهم الشريرة تتدثر بلحاف واحد مع الخيال“الرواية/ ص67.

ومن قواعد اللعبة الميتا سردية في هذه الروائية ان جاسم راهي اسم مستعار يمثل الكاتب الروائي نفسه، وليس مجرد سجين سياسي أو كاتب مغمور:

“سحبت مجموعتي القصصية الاولى، تفحصتها بعينين محايدتين“الرواية/ ص 74.

وتختزل هذه الاشارة استراتيجية إسم كاتب الرواية بوصفه مركز مدار الوعي الانعكاسي لمؤلف الرواية على نحو مفارق تماما ً للاسم المستعار (جاسم راهي) داخل الرواية، وبذا يمكن ان نعد أزمة جاسم راهي – آزمة (المؤلف نفسه) في الاساس.

ومع ان الروائي لم يتبنّ (الميتا سرد) كبؤرة مركزية للرواية الا انه استخدم اسم جاسم راهي كقناع لا شخصي له، وهنا تتجلى أهم جماليات الشكل الروائي بنزعة ميتاسردية جديدة.

ولعل من أهم آليات الكتابة في هذه الرواية – الكيفية في تقطيع النسيج الروائي باسلوب حر قائم على اللعب بمقدرات السرد، وذلك باستخدام أقصى سياقات تفكيك المنظومة الروائية، والاطاحة بها كليا ً، وفتح فجوات أو خلايا تعبيرية تتصل من حيث تنفصل بعضها عن بعض، لتشكل بؤرة حيوية تنبثق عنها إنشطارات متعددة، تتمازج فيها البنى التحتانية لمدينة الحلة“.

لهذا فالامتياز الذي تنوء بها هذه الرواية، يقوم بخضخضة الرواسب المطموسة المعقدة من قاع المدينة، وإعادة صياغتها  باسلوب بسيط، تعتمل فيها وتصطرع نماذج طبقية مقهورة، لتواجه قوى قاهرة بارادة شعبية، بدلالة ان جاسم راهي مجرد معلم إبتدائية في ريف المدينة، ولكنه أقلق تلك القوى على مدى ثلاث سنوات من الحجز المهين، ثم يقول له أزلام الحجي:

  • “لم نجد ضرورة لبقائك معنا“الرواية/ ص 83.

ويتساءل جاسم راهي بوعي معذّب بمرارة التجربة:

  • “أكنت بريئا ُ؟.. بحيث انني بلا تهمه توجّه إليَّ ؟“الرواية / ص 116.

لقد إكتفى الروائي باللامسميات كدوال دالة على أسماء القتلة، وقوى القهر السياسي كرموز تعبيرية تتجاوز النمطي والمباشر والتقريري.

ولكل ذلك لا تخفي هذه القراءة إنحيازها بحياد ايجابي تام لرواية“بيت الجن“، وخاصة على مستوى كيفية تفكيك الاطار الروائي باللعب الحر بقواعد السرد أولا ً، وكيفية تفكيك منظومة القبو السري لـ“بيت الجن“بالكشف عن القهر السياسي ثانيا ً، وذلك بصيغتي الازاحة والإبدال بينهما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ناقد وروائي.رئيس تحرير جريدة“الاديب الثقافية”.

**بيت الجن/ رواية/ عباس الحداد/ منشورات الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق/ ط1/ 2022.

عرض مقالات: