اخر الاخبار

أولاً: مصطفى جمال الدين وصادق الصائغ شاعران وطنيان، فقد شارك الصائغ في مقتبل عمره في النشاط السياسي اليساري، متظاهراً وكاتباً للشعارات على الجدران ضد الاستعمار والحكومة الملكية، كما وقف ضد الدكتاتورية، وهاجر وتعرض لمحاولتي اغتيال بسبب نشاطه المعادي للدكتاتورية.

أما مصطفي جمال الدين فقد ابتعد عن زمرة مداحي الدكتاتورية، ونأى بنفسه عن كل مديح، ولكنهم طلبوا منه أن يمدح الدكتاتور، ولم يكن هنالك بدّ من امرين لا ثالث لهما المديح أو الرفض، فاختار الشاعر الرفض بهروبه من العراق مرغماً على الاغتراب، وفي اغترابه شارك في بعض نشاطات المغتربين.

ثانيا: ثقافة مصطفى جمال ونشاطه الثقافي يكاد يكون محصوراً في الشعر واللغة والفقه، أما الصائغ فقد تنوعت نشاطاته الثقافية، فهو شاعر وتشكيلي وخطاط مبدع وسينارست ومسرحي، وهو في كل هذا ميال إلى الحداثة، ولذلك جاءت قصيدته (هنا بغداد) ضمن اطار هذا الاتجاه، أما قصيدة مصطفى جمال الدين (بغداد) فانها لا تخرج عن نطاق الكلاسيكية الجديدة.

هنا مقارنة موجزة بين القصيدتين على أسس واقعية في الافكار والعواطف والاسلوب، وثمة أمران قد يثيران الاعتراض على هذه الموازنة أولهما ان قصيدة مصطفى جمال الدين كلاسيكية جديدة وقصيدة الصائغ حداثية، وثانيهما أن قصيدة مصطفى جمال الدين كتبت قبل قصيدة الصائغ بخمسين عاما، ولكن هذين الأمرين لا يقفان حائلين دون عقد هذه المقارنة الموجزة في تناول المشترك، لأن الإبداع هو الابداع وان اختلاف الشكل والزمن، والموهبة يتجاوز جدران الأشكال وحدود الزمن.

ثالثاً: يبدأ مصطفى جمال الدين قصيدته بنداء (بغداد)، ليكون هذا النداء والمنادي إشارة ومدخلاً الى موضوع القصيدة:

بغداد ما اشتبكت عليك الاعصر

الا ذوت ووريق عمرك اخضر

لله فأي سر خالد

ان تسمني وغذاء روحك يضمرُ

اما الصائغ فيبدأ قصيدته الى بغداد من خلال ثريا النص (هنا بغداد) و الصور المعاصرة الموحية:

هذه المدينة عجية

ضربت بالقنابل

سُحقت تحت الأقدام

كما تُسحق الساعة المعطلة

لكنها

كما لو ولدت للتو

سمعت تحت الأنقاض تتك

مُتحسسة قلبها

وأوصالها المفقودة

ان اتفاق المطلعين واضح في التعبير عن فكرة واحدة، الا وهي صمود بغداد، وكلا الشاعرين أتى بما لا يمكن ان يأتي به الا اديب موهوب.

رابعا : التزم الشاعر مصطفى جمال الدين بإيقاع ووزن البحر الكامل، مستفيداً من امتداد تفعيلاته في التعبير عن بحر من الافكار والصور التي تحتاج هذا الامتداد لإستيعاب تدفقها ، أما الصائغ فقد اعتمد النثرية والقطع، مما شاع في شعر الستينيين، وهذا الأمر لا يخدم كثيراً نمو التجربة الشعرية ومواصلتها على حد تعبير الناقد الاستاذ فاضل ثامر، وعليه يحق لنا أن نتساءل عن مقدار الشعر والشعرية في قول الصائغ:

وليس بعيدا عن

 فندق الحاج حمودي الدوري

الشهير (بنزل العظماء)

 سيارات مارقة عبرت الجسر

بأم عيني رأيتها تطير

تنهب الطريق الاسفلتي كانها نيزك

وبداخلها عروس

ستفقد بكارتها هذه الليلة على صخب موسيقى الفنان الشهير

الكابتن حجي رزوقي

يرى الناقد الأستاذ علي حسن الفواز في هذا المقطع الاندفاع باتجاه الانفتاح على تفاصيل يمتزج فيها الشعوري بالاسطوري، اليومي بالكلي) ومصطفى جمال الدين هو الآخر يمزج بين شعوره وخياله حتى يلامس عالم الأسطورة للتخلص من التعبير المباشر:

بغداد بالسحر المندى بالشذى

الفواح من خلل الصبا يتقطرُ

قصي فنحن وراء الفك ليلة

أخرى يطول بها الحديث ويقصرُ

ودعي الخيال فـ (شهريارك)

سمعه للان من صخب الحوادث موقرُ

خامسا: كلا الشاعرين يرى أن التاريخ تصنعه الجماهير، فالصائغ بشير بوضوح إلى هذه الحقيقة مع ملاحظة انحيازه الى المستضعفين، وما هذا بغريب من مثقف يساري الفكر، اذ يقول مشيرا إلى الرايات:

(تخلق تحت الشمس وتلتمع

ملونة أوجه الفقراء والشوارع

بالوان السماء والملائكة)

يستشف من هذا المقطع موقف الشاعر من الصراع الاجتماعي، وقد عبر عنه بشعرية عالية وصورة رائعة، أما مصطفى جمال فهو يعلن بوضوح لا لبس فيه انحيازه الى بناة التاريخ الحقيقيين، هازئاً بمزوري الحقائق الذين لا ينسبون البناء الحضاري الا لملك او أمير او حاجب، هذا الفهم العلمي لحركة التاريخ فيه ما فيه من الجرأة لأن القصيدة القيت في زمن روج فيه بعضهم قدسية الماضي وما سطره المؤرخون من رسم هالة الحكام، ولذلك فالشاعر يحذر من هذه النظرة بقوله مخاطباً بغداد:

وحذارِ أن تثقي برأي مؤرخٍ

للسيف – لا لضميره ما يطرُ

لخليفة ووزيره ولحاجب

واميره ولمن بهم يتأطرً

بوضوح لا تشوبه شائبة يرى مصطفى جمال الدين ان بناة بغداد الحقيقيين هو قائد شجاع حقاً في ساحة المعركة لا ادعاء بالكلام ومفكر ومهندس وشاعر وزارع. ومعلم، المعلم الذي خلت قصيد الصائغ من الإشارة الييه، وما ذلك بملزم للشاعر هذا المعلم قد رسم له الشاعر مصطفى جمال الدين اجمل صورة شعرية متجاوزاً ما عرف من شعر في هذا الموضوع كقصيدة احمد شوقي، وقصيدة إبراهيم طوقان اللتين اشتهرتا، ولو قارنا بينهما وبين ما قاله مصطفى جمال الدين، فان الفرق يبدو واضحاً بين النظم والشعر:

ومعلم لم يدر شارب كأسه

ماذا يقطع من حشاه ويعصرُ

تعبت عيون النجم وهو كأمسه

حدب على صقل المواهب يسهر

يشوي على اللهب المقدس روحه

ليقوت جيلاً حوله يتضورُ

وكفاه مهزولاً تعيش بقلبه

أمم وتسمن من حشاه أعصرُ

سادساً: كلا الشاعرين مؤمن ايمان الثوري بانتصاره، فبغداده لا تهزم ولا تسقط ولا تموت لأن جذورها في أعماق هذه الارض واغصانها لا يدركها الذبول، هذه الفكرة جاءت بابهى صورة على لسان مصطفى جمال الدين حتى حفظها الكثير الكثير ورددوها:

بغداد ما اشتبكت عليك الاعصر

الا ذوت ووريق عمرك اخضر

مرت بك الدنيا وصبحك مشمس

ودجت عليك ووجه ليلك مقمر

أما الصائغ فقد رسم لنا صورة رائعة عن بغداد وصمودها وخلودها بهذا التوكيد المتحدي (هنا بغداد):

وما يفتأ قلبها يخفق ويخفق

مع اشارة بليل الإذاعة المغرد

بكل ما يملك من عزم وقوة

بكل ما تبقى له من كلمات

هنا بغداد

هنا بغداد

هنا بغداد

عرض مقالات: