اخر الاخبار

يضع عدد من منظري الأنواع الأدبية حداً لمفهوم السيرة الذاتية ومنهم صالح الغامدي الذي نص في كتابه “كتابة الذات” على أن “السيرة الذاتية أو البيوغرافيا الذاتية هي من أنواع الكتابة الأدبية، وتعني فن سرد الشخص لسيرة حياته أو جزء منها”.

ورغم مجهودات الغامدي وغيره من الكتاب فإنه يصعب تحديد تعريف معين لهذا النوع الأدبي، لأنه أكثر مرونةً من الأنواع الأخرى وأقل وضوحاً، فهي إما أن تتراوح ما بين سرد لأجزاء من حياة الشخص، أو عرض ليومياته، أو اعترافات شخصية.

تساق هذه المقدمة المبتسرة لتسليط الضوء على كتاب “مواقف وأحداث من حياتي” لمؤلفه الدكتور غازي الخطيب، عالم الأحياء المجهرية العراقي، والشيوعي العتيق، والمناضل الصلب، والوفي لقضيته وانتمائه السياسي والوطني، إذ أنه اتخذ من أسلوب العرض المتقطع لحياته، أسلوبا يقترب من كتابة الرواية الواقعية. 

ينطلق الخطيب في كتابه الصادر عن دار مسامير في العراق السماوة، من نقطة يراها جوهرية في تأليف هذا الكتاب أنه “جاء بعد إلحاح شديد من قبل أصدقائه ومحبيه في ضرورة كتابه سيرته”، ومن ثم يقدم توضيحا مهما يمثل إيجازا آخر لأسباب التأليف “إننا في زمن ضاعت فيه القيم واختلط الحابل بالنابل” ومن ثم يقدم اعتذارا مسبقا يضعه في عتبة المقدمة من القرّاء إن كانت هنالك شطحات.

وزع الخطيب كتابه على ثلاثة وعشرين فصلا، وحمل كل فصل من هذه الفصول عنوانا مستقلا، يكشف عن هوية الفصل وزمنه.

لم يعمد الخطيب إلى الابتداء في الكتابة من أيام حياته الأولى، بل بدأ من النهاية ومن ثم اتخذ من تقنية الاسترجاع نسقا كتابيا لإدراج الأحداث التي عاصرها وعاشها وتحسسها.

تبدأ السيرة من لحظة عودة الخطيب إلى مدينته الأم السماوة، وذلك بعد مغادرته الثانية له، فالأولى كانت لحظة التحاقه بالدراسة في ستينات القرن الماضي. والثانية كانت بعد مغادرته كرسي رئاسة جامعة المثنى 2011، إذ أرسى على مدى خمس سنوات ركائز هذه الجامعة وجعلها شاخصة وقوية ومتينة، حتى مغادرته مرّة أخرى والعودة إلى بغداد، ومن ثم العودة إليها تحت رغبة من أهالي السماوة بضرورة ترشح الخطيب إلى مجلس المحافظة 2013، بعد نجاحه في إدارة رئاسة جامعة المثنى.

صوت القاع

رغم ما يملكه الخطيب من مؤهلات علمية ، ومناصب تنقل بينها أثناء تقديمه لوظائفه المتعددة ، لم ينفصل عن فكره اليساري ، الذي يتحدث عن الطبقات الدنيا من المجتمع ، وتحويلها إلى نقطة ارتكاز وانطلاق له لكتابة السيرة ، إذ كان الفصل الأول منها قد بدأ بعنوان “ بحريّة والريّس “ وبحرية هنا هي امرأة عجوز من سكنة الأحياء العشوائية في السماوة، عرفت مجتمعيا “ بأحياء التنك “ ، وهنا قدم الخطيب شخصية بحرية على الرئيس وهو يشير إلى نفسه بأنه رئيس الجامعة  صاحب المنصب الرفيع، الذي قصد هذه الشريحة من الناس، ومن دون ترّفع على هذه الشريحة، في نيّة البحث عن انصاف لهم، والانصات عن قرب إلى ما يعانوه من تراكم في المشكلات، فكانت بحرية بطلته الأولى في هذا السيرة، وينقل الحوار الذي دار بينه وبينها وهي تتحدث عن فساد الدولة، وقصة (جويسم) بطل الفساد في كل العصور الذي شيد قصرا بمحاذاة حي التّنك.

ومن ثم يتحول مسار الذاكرة إلى تجربته الشخصية في مجلس محافظة المثنى، ويصفها بأنها التجربة المريرة، التي وأدت أحلام التغيير التي كان ينشدها وينشدها كذلك من انتخبوه، فهو صاحب الأصوات الأعلى من حيث التأييد المجتمعي، إلا أنه صاحب الصوت المنفرد داخل القاعة التشريعية لمجلس المحافظة، وهنا، لا يتهاون الخطيب بذكر الصراع الذي عاناه مع زميله الدكتور علي خنوش، الذي كان مرشحا معه ضمن القوى الديمقراطية والمدنية.

يأخذ الخطيب قارئه إلى بدايات تأسيس جامعة المثنى، وكيف أنه كان قصدها ويستقل سيارة أجرة، ودخلها منفردا، وهي تضم ثلاث كليات، وخرج منها وهي تضم عشر كليات، مع وضع أسس لكليات أخرى رأت النور في الوقت اللاحق.

يعود صاحب السيرة مرة أخرى إلى خمسينات القرن الماضي وبداية الوعي والنضوج السياسي، ويقدم الصورة المجتمعية التي كانت سائدة آنذاك، التي تشمل بواكير الوعي السياسي، والبذور الأولى لتشكل الوعي اليساري لديه ولدى رفيق دربه خضير السيد عباس يقول الخطيب “اعتقلتنا القوات الأمنية وأودعتنا السجن وهو ما رافقه ضجة كبيرة شهدتها السماوة” في أن ابن الشيخ موسى الخطيب متهم بالشيوعية ومعه ابن سيد عباس!! ومن مصادفات ذلك الاعتقال أنهم وجدوا في الزنزانة اثنين من قادة الحزب الشيوعي العراقي قد سبقوهما، وكان ذلك يمثل لهما قدحة جديدة له ولرفيقه في أن يعززا من فكرهما اليساري، رغم صغر سنهما.

يسرد الخطيب أيضا اللحظة التاريخية المهمة التي غيّرت مسار حياته من خريج كلية الطب البيطري المطارد، إلى واحد من  أشهر علماء العالم في مجال الأحياء المجهرية، وهي لحظة حصوله على منحة للدراسة في ألمانيا ضمن منح اتحاد الطلبة العالمي، لتبدأ هناك سلسلة من الأحداث التي رافقتها الغرابة والندرة ، والتميز ، والإصرار ، فمن تفوقه العلمي  إلى التزامه السياسي، وانخراطه في رئاسة اتحاد الطلبة العرب في ألمانيا، ومن ثم حصوله بعد اجتياز الدكتوراه على منحة دكتوراه هابيل، وهي أعلى شهادة تمنح في ألمانيا، حتى عدته ألمانيا من علمائها المبرزين.

الأنظمة السابقة والنظام الحالي

لم يتوان الخطيب في فضح جرائم الأنظمة التي توالت على حكم العراق في العهدين الملكي والجمهوري، ومن ثم تعرضه للاستهداف الشخصي، إذ كان الخطيب في لحظة عودته إلى العراق بعد إكمال دراسته في ألمانيا على موعد مع الاعتقال، إذ تم اعتقاله على أثر صدور أمر بحقه نتيجة لنشاطه السياسي.

وهنا تبدأ سيرة عذابات جديدة عاشها الرجل، من اعتقال وتعذيب ومطاردة وتنكيل، وصولا إلى عدم احتساب شهادته العلمية!

يستمر الخطيب بعرض الذكريات وصولا إلى لحظة سقوط النظام، لتبدأ معها سيرة أخرى من الاستهدافات والتي بدأت بمحاولات الاغتيالات المبرمجة من قبل تنظيم القاعدة لاستهداف كفاءات العراق، ونجاته بإعجوبة منها، وصولا إلى حداثة خطف ابنه الدكتور بسام، من قبل عصابات التسليب التي نشطت في بغداد بين أعوام 2005 و2010.

الوطن والمواطن

يمكن لنا عد هذا الكتاب، بأنه عينة عراقية منتقاة لتمثيل التحولات السياسية والمجتمعية التي شهدها العراق طوال الستين سنة الماضية، ذلك لأنها أتت من شخصية لم تكن هامشية في الحياة العامة، إلا أنها تتصل بها من خلال الفكر السياسي، إذ أن كاتبها نشط كثيرا بين الأكاديمية والسياسية، والتفاعل المجتمعي، فضلا عن التدريس والسفر والتجوال.

هذا الكتاب سيرة الوطن العراق ومواطنه، فما عانه وعاشه كاتبها، كان قد وقع على غيره من العراقيين وعاشها مثله، لكن الميزة هنا تكمن في أن الخطيب كتب وأرّخ شيئا من تاريخ الأكاديمية العراقية في حقلها العلمي الصرف، ونضالات حزبه في تلك المراحل، بأسلوب خاص سهل وواضح، ومن ثم يكشف حقائق كانت غائبة عن كثيرين.

لم ينفصل الكاتب وهو يجسد ذلك عن فكره اليساري، وأحلامه في تحقيق حلم العدالة الاجتماعية، والتكريس لفكرة النضال من أجل الوطن والمواطن واحقاق حقوقه.

تأتي هذه الوثيقة التي عدها الكثير في أنها من الوثائق العراقية المهمة في هذه اللحظة التاريخية، التي تتحدث عن البلاد والعباد ضمن إطار البوح الذاتي عن الذات العراقية، لتجسد شكلا من أشكال الوعي العراقي الوقاد، الذي هُمش وتعرض ما تعرض للنفي والتنكيل، والتهميش، والمطاردة.

عرض مقالات: